المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وفاء العباس عليه السلام عبْرَ نظرةٍ سريعة في نصوص كربلاء


ابو محمد تقي
10-06-2010, 08:40 PM
رحمة الله وبركاته عليكم أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة ، أنجم الهداية ، وسلام على أرواحكم وأجسادكم سادتي أجمعين أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار وبعد : أنتم مَنْ كَفِلَتْهم في حجْرِها النبوّة ذريةً بعضها من بعض .. فسلام لكم أيها الطيّبون وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.. وكيف تُظنّ بكم الظنون ووهبتم للرحمن روح المنون ، فكنتم أئمة العصمة ولنا القادة والقدوة ، يفصلنا عنكم ذاك الزمن أيام المحن ، على أن الفصل لا يبعد عن الأصل ، مسيرة الدهر تمنّ على المستضعفين من أبناء ( هل أتى ) وتجعلهم الوارثين ، وذلك ضمن الوعد الإلهي في كتابه المنزل آيات محكمات لإكمال دور أصحاب الرسالات .وننعطف بلا فصل إلى قمر بني هاشم أبي الفضل العباس سلام الله عليه ..
أهل البيت (ع) وسموّ منزلة العباس (ع) :
كلّ مطّلع على نصوص كربلاء يلمس بوضوح أن العباس (عليه السلام) كان يمثّل الشخصية الثانية بعد الإمام الحسين (عليه السلام) .ومن مجمل النصوص التي تتحدّث عن العباس (عليه السلام) نكتشف أننا أمام شخصيّة فريدة ، لها طابعها المميّز ، ينبغي علينا أن نعرفها وندرك أبعاد العظمة فيها حتى لا نُحرم من بركاتها في الدنيا على صعيد العمل والتأسّي .. وفي الآخرة على صعيد الأجر والثواب والمقام الرفيع مع محمد وآله صلوات الله عليهم أجمعين.أوّل من عظّم العباس وتحدّث عن سموّ منزلته هم أهل البيت (عليهم السلام).. حيث ورد في شأنه عن أمير المؤمنين (ع) :إن ولدي العباس قد زقّ العلم زقّاً ويقول إمامنا جعفر بن محمد الصادق (ع) في شأن العباس (ع) : كان عمّنا العباس بن علي نافذَ البصيرة ، صُلْبَ الإيمان ، جاهد مع أبي عبد الله عليه السلام وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً وقال إمامنا السجّاد زين العابدين (ع) متحدثاً عن مآثر العباس (ع) ومنزلته :فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قُطعت يداه فأبدله الله عز وجل منهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل لجعفر بن أبي طالب . وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة ويتبوّأ العباس (ع) في كل زيارة من زيارات الإمام الحسين (ع) تقريباً ، مركزاً خاصاً ، حيث يرد ذِكْرُه مقروناً بالسلام عليه مع تمجيد لمواقفه ، هذا عدا عن الزيارات الخاصة به التي وردت عن أئمة أهل البيت (ع) ، فنقرأ في زيارته التي رواها أبو حمزة الثمالي عن الإمام الصادق (ع) ما يلي : سلام الله ، وسلام ملائكته المقرّبين ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، وجميع الشهداء والصدّيقين ، والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح ، عليك يا ابن أمير المؤمنين .أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل ، والسّبط المنتجب ، والدليل العالِم ، والوصي المبلّغ ، والمظلوم المهتضَم . فجزأك الله عن رسوله ، وعن أمير المؤمنين ، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرتَ واحتسبت وأعنتَ ، فنِعْمَ عقبى الدار . لعن الله مَن قتلكَ . ولعن الله مَن جهلَ حقّك واستخفّ بحرمتك . ولعن الله مَن حال بينك وبين ماء الفرات صيغة السلام الواردة في هذه الزيارة تُظهر الفئة التي ينتمي إليها العباس (ع) ، فهو ينتمي بحسب توضيح الأمام الصادق (ع) إلى فئة الملائكة والأنبياء والشهداء والصدّيقين .. وحسُن أولئك رفيقا .وتبيّن الشهادة التالية لمقطع السلام مبرّرات انتماء العباس (ع) إلى هذه الفئات من عباد الله الصالحين ، فهو : مسلّم ، مصدِّق ، وفيّ ، ناصح للإمام الحسين (ع) ، أي أنه وفيّ بالتزامه الإيماني النابع من كونه مسلماً مخلصاً ، لأن الحسين (ع) هنا ليس أخاً ، بل هو قائد الإسلام . وبعد أن حدّد الإمام الصادق (ع) في المقطع السابق الفئة التي ينتمي إليها أبو الفضل (ع) يعود في مقطع آخر من نفس الزيارة ليصنّفه من جديد مع فئة أخرى كان لها أثر حاسم في مسيرة الإسلام ألا وهي البدريّون ، ولا يخفى أن هؤلاء يحتلّون أسمى مرتبة في قوافل الشهداء الكرام الذين رزقوا الشهادة بين يدي رسول الله (ص) . يقول سلام الله عليه :أشهدُ وأُشهِدُ الله أنك مضيت على ما مضى عليه البدريّون المجاهدون في سبيل الله ، الناصحون له في جهاد أعدائه ، المبالغون في نصرة أوليائه ، الذابّون عن أحبّائه …ولا بد من ملاحظة دقيقة لعبارة " أشهد وأُشهد الله .. " فهي سرّ من الأسرار التي يجب على المؤمن العارف أن يتوقّف عندها لما تتضمّنه من المفارقة بينها وبين بقيّة الشهادات في زيارة العبّاس (ع) .من خلال ما تقدّم من النصوص المباركة المختصرة ـ وغيرها كثير ـ نستنتج أن أوّل مَن عظّم العبّاس (ع) ورسم ملامح شخصيّته الفذّة وعرّفنا طبيعةَ ملكاته السامية مواقفه الخالدة ودرجة يقينه وإخلاصه وتقواه.. هم أئمة الهدى من أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم أجمعين.



صفات العباس (ع) العامة:
ممّا يُؤسف له أن سيرة العباس (ع) ليست متوافرة بشكلٍ كافٍ حتى يستطيع الإنسان أن يعطي صورة تفصيلية عن حياته .. ومع ذلك ، فإن النصوص التي تناولت سيرته ـ على الرغم من ندرتها ـ قد اندكّت فيها أروع خصائصه البطولية والأريحيّة بحيث لو ذُكر اسم العبّاس (ع) مجردّاً لقفزت هذه الصفات إلى الأذهان مباشرة من دون أي واسطة أو اعتراضٍ أو تشويش .. هذا بالإضافة إلى الميّزة المهمة التي ميّزت هذه النصوص عن غيرها من النصوص والمرويّات التاريخية ألا وهي أن معظمها قد ورد على لسان الأئمة (ع) .. ولعلّ هذا الأمر من مختصّات العباس (ع) التي اختصّه الله تعالى بها.على ضوء النصوص الواردة بحقه (ع) نستطيع أن نرسم مجموعة من الصفات قد امتاز بها العباس وجعلته علامة فارقة عبر التاريخ ميّزت بينه وبين رجال الله المضحّين في سبيل الدين.. فمن هذه الصفات :
1 ـ الأدب الرفيع ، حيث لم يُسمع يوماً ينادي أخاه الحسين (ع) " يا أخي " وإنما كان نداؤه دائماً : " سيّدي أبا عبد الله " تأكيداً منه على مقام الإمام (ع) وعظمته وفضله وأنّه سيّده المأمور بطاعته . نعم ، في موقف واحد فقط ناداه " أخي يا حسين " وذلك عندما سقط إلى الأرض مقطوع الكفّين مثقلاً بالجراحات فقال في لحظات الوداع " أخي حسين أدرك أخاك " .
2 ـ كفالة السيّدة زينب (ع) ، التي طلبت من أخيها الإمام الحسين (ع) كفيلاً في خروجها معه إلى كربلاء ، فكان العباس (ع) ذلك الكفيل .. والكفالة تعني أموراً كثيرة ولا يقوم يها إلاّ أهلها
أليست هذه الكفالة وحدها تمثّل فرادة تاريخية للعباس (ع) اختصت به دون غيره ؟؟ .
3 ـ ساقي العطاشى ، وهذه المهمة لا يقوم بها إلاّ الشجعان .
4 ـ المدافع الذي حين قُطعت يمينه حمل السيف بيساره وهو يدافع عن الإسلام وحقوق المستضعفين والمظلومين حتى قُطعت يساره وسقط.
5 ـ الجريح الذي لم تحُل جراحاته دون مواصلته للجهاد حتى قضى شهيداً على أرض كربلاء .
6 ـ الصّدق الذي تجلّى عندما كلّم " شمراً " حينما أرسل إليه وطالبه بقرابته ، ولما عرض عليه الأمان دون أخيه الإمام (ع) أجابه : " خسئت وخزيت لا أمان لكم وابن رسول الله لا أمان الله " .. فكان الصادق الوفيّ في موقفه ، وسنتعرّض لهذه الواقعة لاحقاً في سياق البحث بإذن الله تعالى .
7 ـ المواسي لأخيه حينما رمى بالماء بعد أن أحسّ ببرودته وقلبه يتفطّر من العطش بعدما قرّبه من فمه قائلاً : " لا والله لا أشرب وأخي الحسين (ع) عطشاناً " .
والصفتان الأخيرتان إن دلّتا فإنما تدلاّن على وفاء أبي الفضل العبّاس (ع) .
وفاء العباس (ع):
يمثّل العباس (ع) بحراً من الصفات والفضائل لا تنفك عنه ولا ينفك عنها، فكأنّ العباس (ع) كتلة من فضائل متحرّكة كلما أردت أن تغلّب واحدة على أخرى برزت لك الثالثة لتقول أنا به أولى.لقد اشتمل العباس (ع) بالوفاء، واشتمل به الوفاء وتسربل بالإيثار، وتسربل به الإيثار وتخندق بالشجاعة، وتخندقت به الشجاعة لقد مثّل كل الفضائل، فتمثّلت فيه كل الفضائل..إن سطراً واحداً من الزيارة التي رواها أبو حمزة الثمالي عن الصادق (ع) اشتمل على أربع صفات لو جمعها الإنسان لكسب سعادة الدارين ، وذلك هو الفوز العظيم .. فكيف بك إذا أردت الوقوف على بقيّة صفاته صلوات الله وسلامه عليه .يقول الإمام عليه السلام : " أشهد لك بالتسليم التصديق والوفاء والنصيحة لخَلَف النبي المرسل ..التسليم .. التصديق.. الوفاء.. النصيحة..هذه أروع الصفات ، حيث جمعت خير فضائل الإنسانية ، ولا نستطيع التفكيك بينها .. والقاسم المشترك بين هذه الصفات هو الوفاء.فالتسليم بالأمر، سواء كان للمعبود تبارك وتعالى أو للرسول (ص) أو للإمام (ع) لا يمكن أن يتم من دون صفة الوفاء .. وهذا هو معنى الوفاء للدين .إطاعة الله ورسوله وأولي الأمر هي فرع الوفاء لدين وشرع الله تبارك وتعالى.ولهذا فإننا نصف المجاهد في سبيل الله بأنه كان وفيّاً لدينه.ومن نفس المنطلق نقول بأن العهد و الوعد و الأمانة لا مصداقيّة لها في العُرف العام والخاص من دون أن يتحلّى المعاهد و الواعد و الأمين بصفة الوفاء.ومن هنا أيضاً يصف الله تعالى رجال الحق بأنهم " صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. " أي وفّوا بعهدهم ، فهم أصحاب وفاء لعهودهم أي رجال أوفياء .ونفس الأمر ينسحب على بقية الصفات من التسليم والتصديق والنصيحة وغيرها من الصفات..إذاً القاسم المشترك للفضائل جميعاً هو الوفاء..لقد ضرب أبو الفضل العباس (ع) أروع الأمثلة لكيفيّة الوفاء وأعطى صورة واضحة وناصعة لمصداق الوفاء في أعلى مراتبه.وبعبارة أخرى لقد بلغ أقصى الجهد في تحقيق هذه الصفة المباركة .. الوفاء لدين الله بكل مراتبه التي يعجز عنها العظماء من الرجال .
مواقف العباس (ع) في نصوص كربلاء ، وقاسمها المشترك :
الوفاء:
نعود إلى نصوص كربلاء من جديد لنسرد واقع وفاء العباس (ع) في مختلف المواقف التي وقفها مع الحسين (ع) وأصحاب الحسين والنساء والأطفال من آل بيت النبوة ، ولا داعي للتعليق على هذه النصوص فهي لا تحتاج إلى تعليق ، اللهم سوى بعض الملاحظات التي لا بد منها .. وكما سبق أن قلنا فإن مجموع هذه المواقف تنضوي تحت قاسم مشترك واحد ألا وهو الوفاء لدين الله تعالى ورسوله ولخليفة رسوله صلوات الله عليهم أجمعين.لدى الدخول إلى نصوص كربلاء ، نجد أنّ أوّل نصّ يتحدّث عن العباس (ع) في كربلاء هو النص الذي يحدّثنا عن كتاب أمان كتبه ابن زياد للعبّاس (ع) ، ورد النص في كتاب " إبصار العين في أنصار الحسين " كما يلي :لمّا كاتب عمر بن سعد عبيد الله بن زياد في أمر الحسين عليه السلام وكتب إليه على يدي شمر بن ذي الجو شن بمنازلة الحسين عليه السلام ونزوله ، أو بعزله وتولية شمر العمل ، قام عبد الله بن أبي المحلّ بن حزام بن خالد بن ربيعة بن عامر الوحيد ـ وكانت عمّته " أم البنين " ـ فطلب من عبيد الله كتاباً بأمان العبّاس وإخوته ، وقام معه شمر في ذلك فكتب أماناً وأعطاه لعبد الله .قبل استكمال النص لا بد من الوقوف عند رضوخ ابن زياد وموافقته على كتابة كتاب الأمان للعباس (ع) وإخوته ، فهل كتب ابن زياد هذا الكتاب لمجرّد إكرام أخوال العباس وإخوته .. أم أن هناك سبباً آخر ؟!.الذين كانوا يعرفون العباس (ع) ـ وابن زياد منهم بحكم علاقة أبيه بأمير المؤمنين قبل أن ينحرف زياد ـ كانوا حريصين تمام الحرص على فصل العباس عن الإمام الحسين نظراً للشجاعة التي يتميّز بها أبو الفضل (ع) ممّا يُعتبر توجيه ضربة كبيرة لمعسكر الحسين (ع) .ويتابع النص :أرسل عبد الله بن أبي المحل بالكتاب مع مولى له يقال له " كزمان " فأتى به إليهم ، فلمّا قرأوه قالوا له : أبلغ خالنا السلام وقل له أن لا حاجة لنا في الأمان ، أمان الله خير من أمان ابن سميّة فرجع .
إن معرفتنا بعظمة العباس ووفائه للإمام الحسين (ع) تجعلنا نرى أن من الطبيعي أن يرفض الأمان .. ولكن معرفتنا أيضاً بالجو الذي كان فيه العباس وإخوته يجعلنا ندرك أبعاد وفائه وعظمته، فما يجب أن نقف عنده هو جوّ الجواب ودلالاته والمخزون الإيماني الذي يمكن أن يُستوحى من كلام أبي الفضل وإخوته.إلى هنا ينتهي النص الذي ورد في إبصار العين ..بقي لدينا أن نذكر النص الآخر الوارد حول كتاب الأمان، وهو نص مشهور ، وشهرته أكبر من النص السابق ، أورده السيد عبد الرزاق المقرّم في "مقتله " . ونجد فيه أن الشمر خاطب العباس وإخوته في اليوم العاشر من محرم ، وفي رواية أخرى في اليوم التاسع .. يقول النص ووقف الشمر ناحية ونادى أين بنو أختنا أين العباس وأخوته ؟ فأعرضوا عنه فقال الحسين عليه السلام : أجيبوه ولو كان فاسقاً ، فأجابوه وقالوا : ما شأنك وما تريد ؟ قال : يا بني أختي أنتم آمنون لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين ، وألزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد ، فقال العباس : لعنك الله ولعن أمانك أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له وتأمرنا أن ندخل في طاعة أللعناء وأولاد أللعناء .وإنما قال الشمر ما قال لأن جد أم البنين وجدّ الشمر إخوة ، وهي قرابة بعيدة ، وهو يروم من وراء ذلك إضعاف معسكر الحسين (ع) كما تقدّم .ظنً الشمر أن أهل البيت (ع) إذا وضعوا بين السلّة والذلة فإنهم سيختارون الذلّة .. ولعلً مثل هذا العرض يغري ضعاف النفوس أمثاله.. ولكنّ العباس الذي آمن برسول الله والنور الذي أُنزل معه، ذي المعدن الأصيل.. كان منزعجاً جداً ، ليس من العرض نفسه فحسب ، بل لأنه لا يزال لأولئك العتاة الأمل في أن يقبل العباس منهم الدخول في طاعة يزيد عبر التهديد له بالموت .إن العباس هو سليل عليّ بن أبي طالب الذي كان يقول : والله .. لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه .. إن العباس هو عم علي الأكبر الذي كان يقول : أولسنا على الحق ؟ إذاً لا نبالي ، أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا .لم يكن الموت بأي شكل من الأشكال يخيف أمثال العباس وإخوته ، ولكن الشمر وإضرابه من الرجال يقيسون الناس بموازينهم هم ، فصاحب الإيمان يرى الناس من خلال صفاته الشخصيّة ، ويزن أعمالهم على الطراز الذي يود منهم أن يزنوا أعمالهم على منواله . وأما المنافق فإنه يزن الآخرين من خلال نفسه المريضة ويظن أنهم مثله ، مستعدّون لبيع آخرتهم بدنياً دنيّة لم يبقَ منها إلاّ صبابةٍ كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ـ حسب تعبير الإمام الحسين عليه السلام ـ لقد كان جواب العباس (ع) : أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ؟؟ ..كل شيء بالنسبة للعباس مرتبط بالحسين (ع) .. هذه هي وحدة المصير .. ووحدة الهدف والرؤيا .. وهذا هو الوفاء للدّين الذي يجسّده العباس (ع) في كل موقف من مواقفه الكثيرة في تاريخ حياته الحافل بالمجد والبطولات .ونعود مرة أخرى إلى نصوص كربلاء ... فنجد نصاً يتحدث عن أمر الحسين (ع) للعباس بجلب الماء قبل اليوم العاشر من المحرّم ، يقول النص كما أورده السيد المقرّم في " مقتله " :لمّا مُنع الحسين عليه السلام وأصحابه من الماء وذلك قبل أن يجمع على الحرب اشتدّ بالحسين وأصحابه العطش فدعا أخاه العباس فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ليلاً ، فجاءوا حتى دنوا من الماء ، وتقدّم نافع بن هلال الجملي باللواء فصاح عمرو بن الحجاج : مَن الرجل ؟ .. قال: جئنا لنشرب من هذا الماء الذي منعتمونا عنه. فقال : اشرب هنيئاً ولا تحمل إلى الحسين منه . قال نافع : لا والله لا أشرب منه قطرة والحسين ومَن معه من آله وصحبه عطاشى . وصاح نافع بأصحابه : املئوا أسقيتكم ، فشدّ عليهم أصحاب ابن الحجاج فكان بعض القوم يملأ القِرَب وبعض يقاتل .. وحاميهم " العباس عليه السلام " فجاءوا بالماء وليس أحد من أعدائهم تحدّثه نفسه بالدنو منهم فرقاً من ذلك البطل المغوار ، فبلّت غلّة الحرائر والصبية من ذلك الماء .وهناك نص أورده صاحب إبصار العين قال :وكان العباس ربما رَكَزَ لواءه أمام الحسين عليه السلام وحامى عن أصحابه ، أو استقى ماءً فكان يلقّب بالسقّاء .وكذلك نجد حديث أبي الفضل العباس (ع) في نص يتحدّث عن اليوم التاسع من المحرّم ، يقول النص : كان الحسين عليه السلام جالساً أمام خيمته محتبياً بسيفه وخفق برأسه فرأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول : إنك صائر إلينا عن قريب ، وسمعت زينب أصوات الرجال وقالت لأخيها : قد اقترب العدو منّا ، فقال لأخيه العباس : اركب بنفسي أنت حتى تلقاهم واسألهم عما جاءهم وما الذي يريدون ، فركب العباس في عشرين فارساً منهم زهير وحبيب وسألهم عن ذلك ، قالوا : جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه أو ننازلكم الحرب .وقبل الدخول إلى النص الأخير نتوقف عند ملاحظة حول منزلة العباس ووفائه من خلال سياق هذه النصوص .فنقرأ في الأولى : ( فكان بعض القوم يملأ القِرَب وبعض يقاتل .. وحاميهم " العباس عليه السلام " ).وفي الثانية : ( وحامى عن أصحابه ، أو استقى ماءً ) .وفي الثالثة : ( فركب العباس في عشرين فارساً منهم زهير وحبيب ) .الأصحاب يستقون الماء والعباس حاميهم .. وهو حامي العيال والأطفال أيضاً..والعباس يستقي الماء وحده ..والعباس يُنتدب من قبل الحسين في مهمات عاجلة ويكون في ركبه زهير بن القين وحبيب بن مظاهر على جلالة قدرهما وعلو شأنهما عند الحسين عليه السلام .. كل ذلك يدل على أن العباس كان رجل المهمات الصعبة.. مع إدراك جميع أصحاب الحسين عليه السلام لقدرات ومكانة وعظمة وسمو شأن العباس عليه السلام .ولن نتعرّض لقول الإمام (ع) للعباس : ( بنفسي أنت ) .. فهذه الكلمة بحاجة لبحث مستقل ..إن خير ما يدل على ما كان عليه العباس وأصحاب الحسين عليه السلام هو ما قاله الإمام نفسه عنهم ، حيث ورد النص أن الحسين جمع أصحابه ليلة العاشر وخطب فيهم خطبة أقل ما نقوله فيها بأنها كانت أوسمة علّقها على صدورهم قبل مضيّهم إلى ربهم بليلة واحدة حيث قال سلام الله عليه :أما بعد ، فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عنّي جميعاً خير الجزاء ... والله إنها لمفخرة تاريخية رائعة لأصحاب وأهل بيت الحسين (ع) أن يشهد الإمام لهم هذه الشهادة التي ستبقى وساماً معلّقاً على صدورهم مدى الدهر وعلى مر الأيام والعصور ..بقي لدينا النص الذي يلخّص وفاء وإيثار وإخلاص أبي الفضل صلوات الله عليه ..
قمة الوفاء في استشهاده (ع) :
تختلف المصادر في تحديد مقدمات شهادة أبي الفضل (ع) .. وهنا سنعتمد على ما هو المشهور من الروايات التي تفصّل كيفيّة استشهاده فنقول :بعد استشهاد إخوته جاء العباس إلى الحسين عليه السلام واستأذنه في القتال ، فقال عليه السلام : أنت حامل لوائي .. فقال : لقد ضاق صدري ، وسئمت الحياة .. فقال له الحسين عليه السلام : إن عزمتَ فاستسقٍ لنا ماءً .أنت حامل لوائي .. مسألة حمل الراية أو اللواء ليست مسألة عادية.. فمنذ القِدَم والراية تحمل معنىَ رمزياً عظيماً في قانون الدول والثورات والحروب.. ولذلك فإن العَلَم له احترامه الخاص حيث يؤدي له رئيس الدولة التحية كلما مرّ أمامه .. وكذلك الأمر في رفض العلم وتمزيقه أو إحراقه الذي يدل على رفض الدولة وسلطتها من قبل القائمين بذلك العمل..وبمقدار ما للراية من قيمة ، فإن لحاملها مكانة عظمى ، إذ لا تُعطى الراية إلاّ للشجعان الأوفياء ، وقد قال الإمام علي عليه السلام في أيام صفّين : لا تميلوا براياتكم ، ولا تزيلوا ، ولا تجعلوها إلاّ مع شجعانكم ، فإن المانع للذّمار والصابر عند نزول الحقائق أهل الحِفَاظ .. وعقد رسول الله صلى الله عليه وآله أول راياته بيد حمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة.. إن الراية هي عقدُ نظام العسكر وآية زحفهم، وما دامت مرفوعة فإنها تعني إشارة الظّفر وعلامة الفوز. أما إذا نكّست أو سقطت فإنها تعني الهزيمة . ولذلك تُعطى الراية للأكفّاء الغيارى ممّن لا يبخسه الخور ، ولا يفشله الضعف ولا يخذله الطمع ..ولنا أن نتصوّر ما معنى أن يكون العباس (ع) حاملاً للواء الحسين في كربلاء ..راية العباس يوم ألطف يوم عاشوراء يوم كربلاء هي ذاتها التي عقدها الرسول (ص) لحمزة ، وحملها علي (ع) في بدر ، وأُحد ، والخندق ، ثم حملها الإمام علي في معاركه ، وها هي خفاقة في يد أبي الفضل (ع) ..العباس هنا في موقعه الصحيح تماماً .. ولهذا أعطاه الحسين (ع) رايته ..ولا نريد الاسترسال أكثر فإن الكلام هنا لا ينتهي..ونتابع مع النص الأنف :
فأخذ قربته وحمل على القوم حتى ملأ القربة ، قالوا : واغترف من الماء غرفةً ثم ذكر عطش الحسين عليه السلام فرمى بها وقال :
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنتِ أن تكــوني
هذا الحسين وارد المنـــون وتشربين بارد المعـــينِ

ذكر عطش الحسين فرمى الماء من يده ..أيّ وفاء هذا للحسين (ع) ؟ .. ألم يكن ممكناً للعباس أن يقول: أشرب الماء فأتقوّى به على الأعداء ؟؟ .. ألم يكن ؟؟ ألم يكن ؟؟ .. الخ..كلا .. ليست هذه طبائع العباس (ع).. فالغاية لا تبرّر الوسيلة.. والوسائل تقوم عند العباس (ع) على الأنفة والحمية والغيرة والشجاعة والوفاء لما عاهد الله عليه .. من النصرة لسليل النبيين وحافظ دين سيّد المرسلين الإمام الحسين عليه أفضل صلوات المصلّين ..ويتابع النص : ثم عاد فأُخذ عليه الطريق ، فجعل يضربهم بسيفه ويقول :
لا أرهب الموت إذا الموت زقا حتىأُوارىفي المصاليت لِقى
إنّي أنا العباس أغدو بالسِقـا لا أهاب الموت يوم الملتقَى

فضربه حكيم بن طفيل الطائي السنبسي على يمينه فبراها فأخذ اللواء بشماله وهو يقول :
والله إن قـطـعـتـُمُ يميني إنّي أحامي أبداً عن ديني
وعن إمامٍ صـادق اليـقـينِ نجل النبي الطاهر الأمين

فضربه زيد بن ورقاء الجهني على شماله فبراها ، فضمّ اللواء إلى صدره ـ كما فعل عمّه جعفر في مؤتة ـ وهو يقول :
ألا ترون معشــرَ الكـفّار قد قطـعـوا ببغـيهم يساري

فحمل عليه رجل تميمي من أبناء " أبان بن دارم " فضربه بعمود على رأسه خرّ صريعا إلى الأرض ، ونادى بأعلى صوته : أدركني يا أخي .. فانقضّ عليه أبو عبد الله كالصقر فرآه مقطوع اليمين واليسار مرضوخ الجبين مشكوك العين بسهم مرتثاً بالجراحة ، فوقف عليه منحنياً وجلس عند رأسه يبكي حتى فاضت نفسه .. لقد سقط العباس شهيداً وهو يعلم بما للشهيد من أجر عظيم عند الله.. سقط شهيدا وصوت أخيه الحسين يرنّ في أذنيه :إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما نال العباس شرف الشهادة في الله .. بعد أن فتح عينه في عين وليّ الله .. وأغلقها في عين وليّ الله ..كما عاش حياته مع أولياء الله.. فصار هو أيضاً من أولياء الله ..لقد مثّل عليه السلام كلّ الفضائل، فتمثّلت كل الفضائل فيه.. وزادت في القِيَم قيمة جديدة اسمها: ( العباس ) .فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّا وعظّم الله أجورنا وأجوركم بمصاب الحسين وأهل بيته وأصحابه .. وإنا لله وإنّا إليه راجعون .. وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..هذا وبالله التوفيق ..اللهم صلّ على محمد وأل محمد..

المصادر:
1- مقتل الحسين للمقرّم .
2- الإرشاد للشيخ المفيد .
3- مقتل الخوارزمي.
4- العباس للسيّد المقرم .
5- في رحاب كربلاء للشيخ حسين كوراني .
6- العباس بطولة الروح وشجاعة السيف للسيد هادي المدرسي .
7- العباس والعصمة الصغرى للسيد الشيرازي .
8- واقعة كربلاء للشيخ محمد مهدي شمس الدين .
9- إبصار العين في أنصار الحسين .

تسنيم الدين
10-10-2010, 06:15 AM
http://www.lakii.com/img/all/Mar09/b8RJ6k03020534.gif

z زهـٌِـرّةِ آلــيــآسٍــٌمِـيـ،ـنـِْﮯ
10-20-2010, 05:43 PM
http://www.m5znk.com/up2/uploads/images/m5znk-7d7bef03f2.gif (http://www.m5znk.com/)
z زهـٌِـرّةِ آلــيــآسٍــٌمِـيـ،ـنـِْﮯ

بحر الجود
11-02-2010, 10:31 AM
يع ــــطيكـ الع ــــافيه
على رقي الطرحكـ
باركـ الله فيك
وننتظر عطاءكـ المميز دوماً
تح ـــــــــــيااااتيــــ