المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إِن اللَّهَ لايَستحيِي أن يضرِبَ مثلاً ما بعوضة من تفاسيرالشيخ الحجاري الرميثي


شيخ كريم الحجاري الرميثي
10-26-2010, 11:07 AM
http://www.viafy.com/uploads/76bdc45488.jpg (http://www.viafy.com/)

http://www.3sl3.com/up/upfiles/5Df76400.jpg

وَاعلَم يا ابنَ, ما عِلمِي وَعلْمُكَ فِي سِّـرِ هذا
القُرآن مِن عِلْمِ اللهِ إلاَّ ما أخَذَ هذا العُصفُورُ
مِن هذا البَحرِ قَطْرَة بِمِنقارِه,,

والحَمدُ لِلهِ الذِي عَلَّمَني حَرفاً وَكُنتُ لا أملِكُ
قَبلَه, فَأنزَلَهُ بِقلَمِي مُبارَكاً لأتَصَدى بـهِ فِي
تَفسِير هـذا القـُرآن,,

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(فَوَجَدَا عَبْـداً مِـنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِـنْ
عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)(الكهف65)

سُورَة البَقرَة الجـِزء الأوَل مِن القرآن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّ اللَّـهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَـضْرِبَ مَثَـلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً
وَيَهْدِي بِـهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِـهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْـدِ مِيثَاقِـهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِـهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
ُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
تَفسِير: (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً) سَبَب نِزُول الآيَة هُـوَ

اعتِراضُ المُشْركِينَ عَلى ما وَرَدَ هُناكَ مِنْ أمْثِلَةٍ فِي الآياتِ السابِقَةِ: فَسُيِّقـَتْ

هذِهِ الآيَـة لِبَيانِ ما اسْتَنكَرَهُ المُنافِقُونَ وَالكُفارُ مِنْ قُرَيش وَأهْل الرِّدَةِ وَالعَنادِ

وَقالتِ اليَهُودُ وَاللَّذينَ أشْرَكُوا مَعَهُم مِنَ العَرَب: أنَ رَبَّ مُحَمَدٌ يَضْرِبَ الأمْثالَ

بالذِبابِ وَالعَنْكَبُوتِ, فَنَزَلتْ بوَصْفِهِم مِما اسْتَغرَبُوه مِنَ الحَقِّ فِي إنْكالِهِ,,

فَضُربَّتْ الأمثالُ بِهِم ثانِيَةَ كَالبَعُوضَةِ, لأنَهُم أدنى حَقارَةً, مِنها فَلَيْـسَ الحَـياءُ

بِمانِعٍ للـهِ مِنْ ضَرْبِ الأمثالِ بمَخْلُوقاتِهِ الصَغيرَةِ فِي نَظَّرِِ المُنافِقِينَ كَبَعُوضَةٍ

ذلِكَ لِيُبيِّنَ وَيَصِفَ لِلحَقِ شَبَهاً: فَكَيْفَ لِلهِ تَعالى أنْ يَمْتَنِـعَ عَـنْ ضَـربِ المَثـَل

بالبَعُوضَةِ,, هـذا ما اشْتَمَل عَلَيهِ القـُرآن عَلى أنْ يَقـدَحَ بفِصاحَتِهِ فَضْلاً عَـنْ

كَوْنِـهِ مُعجِزاً بِضَربِ الأمْثالِ كالبَعُوضَةِ وَغَيرِها بهـذا التحَدِي الَّـذِي أبدَدَتَـها

الآيَة لِتَجْتَمِعَ بحَسَبِ الحِقِيقَةِ إلى مَعنِييَّنِ: وَهُما دَعوى ثبُـوت أصْل الإعجاز

بِخَلْقِ البَعُوضَةِ وَخَرْقِ العادَةِ الجارِيَة بِفِعلِها المُقَهِرُ لِلإنسانِ,,

وَأما الفِعلُ الثاني: أنَ القرآنَ هُـوَ مِصْداقٌ مِنْ مَصادِيقِ الإعجازِ, وَمَعلُوم أنَ

الدَعوى قَـد ثبَتَ بثِبُوتِها آيَةٌ لِلبَلِيغِ فِي بَلاغَتِهِ وَفصاحَتِهِ, وَلِلحَكِيمِ فِي حِكْمَتِهِ

وَمَوْعِظتِهِ وَلِلحاكِم فِي قَضاءِهِ, وَلِلعالِم فِي عِلْمِهِ, فَجَعَلَ اللهُ تَعالى هذا المَثـْلُ

لِصِفَةِ التَنبيهِ وَالإشارَةِ ثُمَ نَوَّه: وَقالَ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ)

(الحج:73) فَأبَّى الكُفارُ وَالمُنافِقُونَ أنْ يَدخِلُوا فِي طاعَةِ اللهِ, فَطَّعَنَ اللهُ فِـي

أصْنامِهِم وَأوْثانِهِم وَشَبَهَ عِبادَتَها بِبَيْتِ العَنْكَبُوتِ بِوَّهْنِ حالٍ وَضعفٍ فَوَقَعَتْ

عِبارَةُ العَنكَبُوت فِي كَلامِ الكَفَـرَةِ: فَقالـُوا أما يَسْتَحْيي رَبُّ مُحَمَـدٍ أنَ يَضْـربَ

مَثَلاً بالذِبابِ وَالعَنْكَبُوتِ بِحَقارَتِهِما عَلَيْنا وَلَمْ يَكتَفِي, ثمَ يُسْتِعِيرَ بضَربِ أمْثالٍ

أخْرى يُشَبهَنا بِها كَالنارِ وَالظُلُماتِ: وَقالَ (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) ثمَ

إنَهُ يُعاقبَّنا بالرَّعدِ وَالبَرْقِ وَالصَواعِقِ وَقال (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ

الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ)

فَنَزَلَ الـرَّدُ مِنْهُ سُبْحانَهُ عَلى سَبِيلِ إطْباقِ الجََوابِ عَلى السُؤالِ الصادِرِ مِنهُم

وَقال (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً) أرادَ اللهُ تَعالى أنْ يَمْتَثِلَ

بِكَلامِهِ لَهُم بالعَظِيم بأنَهُ أكْبَرُ مِنْ كُلِّ عَظِيمٍ, فَمَثَلَ الحَقِيرُ بالحَقِيرِ بَعدَ أنْ أقَبَحَ

عبادَتَهُم الأصْنام وزَجَرَهُم بِها بعِدُولِهِم عَـنْ عِـبادَةِ الـذِي خَلَقَهُـم فَصَلَـحَ, أنْ

يَضْرُبَ لَهُم المَثَلُ بالذِبابِ ذلِكَ لِيُبَّيِنَ قَـدر مُضَّرَتَها التِي لا يَنْدَفِعَ بِها المَعبُـود

مَـنْ يَعبِدَهُ كَهـذِهِ الأصْنام،, ثـمَ ضْرَبَ اللـهُ المَثَل الثانِي لِيُبَّيِـِّنَ لَهُـم أنَ عِبادَةَ

الأوْثانُ أوْهَنْ وَأضْعَف بالوَصْفِ كَبَيْتِ العَنْكَبُوتِ وَلكِن لا يَعقِلُونَ عَمَّا قالَ الله

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ

الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(العنكبوت:41)

فَهَلْ يَنبَغي مِنْ عاقِلٍ أنْ يَأتِي بِمُعجِزَةٍ يدَعِيها هُدى لِلعالَمَِين مَعَ ما يَدَعِيهِ لَهُم

أخْباراً فِي الغَيْبِ عَما مَضى أوْ ما خَلى مِنْ الأُمَمِ الماضِيَة, أوْ إنَـهُ يَدخـُلَ فِي

كُلِّ شِأنٍ فِي شِئـُونِ البَشَـرِ وَالعَوالِـم لِيُحَوِّلَ حالَهُم إلى حالٍ, ويُنقِـصَ وَيُزيـدَ

شَيءً مِنْ شَيءٍ, فَلا مُحالَ أنْ يَكُونَ ذلِك: لأنَ ما يَشْتَمْلَ عَليهِ القُرآنُ الكَريم

كُلَّهُ فوَقَ القُوَّةِ البَشَريَةِ, كَما لَّـوْ اجْتَمَعَتْ الإنِس عَلى أنْ يَخْلِقُوا بَعُوضَةً لَّما

كانُوا يَقدرُون,,

وَذَكَرَ اللهُ تَعالى فِي سُورَةِ الحَج (إِنَّ الَّذِيـنَ تَدْعُونَ مِـنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلـُقُوا

ذُبَاباً وَلَـوِ اجْتَمَعُـوا لَـهُ وَإِنْ يَسْلـُبْهُمُ الذُّبَابُ شَـيْئاً لا يَسْتَنْقِـذُوهُ مِنْـهُ ضَعُـفَ

الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(الحج:73)

ثـُمَ عَطفَ اللـَّهُ هـذا المَثَلُ بالبَعُوضَةِ: لأنَ خِلْقَتَها أعجَبْ لِكَونِها تَشْبَهُ خِلْقَـت

الفِيـل بِخَرطُومِه: وَمَعناهُ فِيها يَعنِي إذا لَـمْ يَسْتَحيَِّ الإنسانُ فليَصْنَع ما يَشاءُ

وَلَـهُ تَأوِِّيلان أحدَهُما ظاهِراً وَهُـوَ المَشْهُورُ: إذا لَّـمْ يَسْتَحْيَِّ مِـنَ العَيْـبِ وَلَـمْ

يَخْشَ العار مِما يَفعلَّهُ فلْيَفعَل ما تُحَدِث بِـهِ نفْسُهُ مِنْ أغراضِها حَسَـناً كانَ أوْ

قبيحاً وَلفظُهُ أمْرٌ وَمَعناهُ تَوْبيخٌ وَتَهدِيدٌ، وَفيهِ إشْعارٌ بأنَ الذِي يَرْدَعُ الإنْسانَ

عَـنْ مُواقعَةِِ السُـوءِِ هُـوَ الحَياءُ, فإذا انْخَلَـعَ مِنـهُ كانَ كَالمَأمُورِ بارتِكابِ كُـلَّ

ضَّلالةٍ وَتَعاطِي كُلَّ سَيئةٍ فَيُطْلَق عَلَيهِ ظالِماً,,

وَالمُرادُ هُنا: مِـنْ هَـدَفِ أصْـلِ الاسْتِحياء هُـوَ الانقِباضُ عَـنْ مُواقَعَةِ السُـوءِ

وَالامْـتِناع مِنـهُ خَوْفـاً إذا كانَ الإنسانُ يَلزَمَـهُ الاسْتِحياءَ عُـرفـاً أمْ دِيـناً, لأنَ

الحَياءَ هُـوَ تَغيّـِرُ وَإنْكارُ يَعتَري الإنْسان مِنْ فِعـلٍ ما يُعاب بِـهِ وَيُـذَم، وَمَحَلَهُ

الوَجْه, وَمَنبَعَهُ مِنَ القَلْبِ بِتَصَرفِ العَقلِ, والحَياءُ هُـوَ اسْتِقباحُ فِعـْل الشَيءِ

بحالَةِ ما دُونَ نَقصٍ فِيهِ كالمُنكَرِ وَالضَلالِ، وَمِنْ هـذا قالَ اللهُ (وَمَا يُضِلُّ بِـهِ

إِلَّا الْفَاسِقِينَ)

وَالثانِي أن يُحْملَ الأمْرُ عَلى بابهِ كَما يُقال: إذا كُنتَ فِي فِعلِكَ آمِناً أنْ تَسْتَحْيِيَّ

مِنهُ لِِجَريكَ فِيهِ عَلى سُنـَنِ الصَواب فلْـزَّم شَرَفكَ، وإنْ كُنتَ لَيْسَ مِـنْ الأفعالِ

التِي يُسْتَحيا مِنها فاصْنَع ما شِئْتَ, وَلكِنْ اجْعَـل العِبْـرَةَ فِي العَقـلِ (إِنَّ اللَّهَ لا

يَسْتَحْيِي) بضَرْبِ الأمْـثالِ بِـِكَ وَبغَيْـركَ فـإنَ فِيـها مِـنْ دلائِـلِ القِـدرَةِ وبَدائِـعِ

الصُنعَةِ ما تُحار فِيهِ العِقـُولِ كَالذبابِ وَالبَعُوضِ بِحقارَتِهِما, وَالمَثلُ يَـدِلُ مَعَ

وجُوبِ تَنزيهٍ عَما لا يُلِيق بِجَلالِهِ تََعالى مِنْ صِفاتِ المُحدِثاتِ, فَهُوَ مُحالٌ فِي

حَقِهِ تَعالى فَيُصَرِّفَ اللَّفظُ بِما يَشاءُ وَالمَعنى فِيهِ كَما قالَ (بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)

أي فَما يَكُون فـَوْقَ حَجْمِها مِنَ الحَقارةِ وَالقَذارَةِ كَالذُبابِ, أوْ جَعَلَ اللهُ ضَربَ

الأمْثالِ بِحالِ الآلِهَةِ التِي جَعَلُوها الكُفار أنداداً للـهِ تَعالى, فَشَبَـهَ اللهُ عِبادَتَهُم

بمَعَبَداتِهم لا حالَ أحقَرُ مِنَ الآلِهَةِ وَأقَلَ وَهْناً وَضِعفاً وَحَقارَةً مِنْ بَعوضَةٍ،,

كَما إنَهُ سُبْحانَهُ وَتعالى جَعَلَ مَثَلُ الآلِهَة كَبَيْتِ العَنكَبُوتِ فِي الضِعفِ وَالوَهْنِ

وَالحَقارَةِ بأقَـَلِّ مِنَ الذُبابِ وَأخَسَ قَـدْراً، وَضَرَبَ مَثـلُ الذُباب دُونَ البَعُوَضَِةِ

خِسَّةً وَحَقارَةً وَهُم لا يَشْعِرُون,,

كَذلِكَ مَثـلُ اللـَّه تَـبارَكَ وَتَعالـى إنَـهُ لا يَتَعارَض بِـهِ كَمَثـلٍ لِِلدُنـيا وَأهْلِـها بِـما

وَصَّفَهُم كَالبَعُوضَةِ إنَها ما دامَتْ جائِعَةٌ عاشَتْ, وإذا شَبَعَت ماتَتْ, كَذلِكَ أهْلُ

الدُنيا إذا امْتَلئُوا مِنْها أخَذَهُم اللـَّه بِشَّـر البَلاءِ وَسُوءَ المَـوْت, لأنَ الخُسْرانَ

بالمَعنى الهَلاك وَفِي الإشارَةِ أولئِكَ هُمُ الهالِكُون,,

وََلِمَعرَفَةِ بَيان ضَرْبِ الأمْثال: هُـوَ وَصِيَةُ اللـَّهِ تَعالى إلى الناسِ وَأمْرُهُ إياهُم

بِما أمَرَهُم بِـهِ لِطاعَتِه, وَنَهْيَهُ إياهُم عَما نَهاهُم عَـنْ مَعصِيَتِه, فلَنْ يَترُك الله

ضَرْب المَثَلِ ببَعُوضَةٍ تَرْكُ مَنْ لا يَسْتَحِيِّي أنْ يُمَثِلَ بِها لِحَقارَتِها: بَلْ مَعَ إنَهُ

سُبْحانَهُ يُقابِلَهُ بالعِقوبَةِ الشَدِيدَةِ, وَلكِنْ في جانِبٍ آخَرٍ اللهُ يَسْتَحِيِّي كَما رَوى

سَلْمانُ المُحَمَدِي عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيهِ وَآلِـهِ قال (إنَ اللهَ تَعالى حَيِّيٌ

كَريمٌ يَََسْتَحِيِّي إذا رَفَعَ العَبْدُ إليهِ يَدَيْه أنَ لايَردَهُما صِفراً حَتى يَضَع فِيهُما خَيْراً

فَلَوْلا كانَ هذا التَحَدِي ببَلاغَةِ بَيانِ هذا القُرآنُ وَجَزالَةَ أمثالَهُ لَمْ يَتَعدَ التَحَدِي

إلا مِنَ العَربِ الجاهِلِينَ اللَّذِينَ كَذَبُوا مَعاجِزَ هـذا القُرآن, وَلكِنَهُم تَجاهَلُوا بأنَ

هُناكَ عَهْدٌ قَـَد أخَذَهُ الله تَعالى عَلَيْهِم حِينَ أخْرَجَهُم مِـنْ صِلْبِ أبيهِم آدَم الذِي

وَصَفَهُ فِي قوْلِهِ (وَإِذْ أَخَـذَ رَبُّكَ مِـنْ بَنِي آدَمَ مِـنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ

عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)(لأعراف:172)

هذا هُوَ العَهْدُ الذِي أخَذَهُ اللهُ عَلى عِبادِهِ بِتَبلِيغِ رُسُلِهِ لِلناسِ أنْ يُوَحِدُوه وَأنْ

لا يَعبِدُوا غَيْره وَالضَمِيرُ يَقع عَلى العَهْدِ الذِي أخَذهُ اللـَّهَ مِـنْ بَنِي آدَم يُحتَمَل

العَوْدَةَ عَلَيهِِ عَلى أتِباعِ الرُسُلِ وَالكُتـُبِ المُنَزَلَةِ أنْ يُؤمِنُوا بِمُحَمَد صَلى اللـَّهُ
عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلم,,

وَنَقول وَنُحَذِر: إلى كُـلِّ مَـنْ أدعى مِـنَ المُفسِرينَ لا يَجُوز إجراء اللَّفَظ عَلى

ظاهِرِهِ عِندَ مَنْ افتَقَرَ وَقَدَرَ بأنَ اللهَ سُبْحانَهُ وَتعالى خَلَقَ الضَلالُ وَالكُفرُ فِي

المُشْركِينَ وَأبعَدَهُم عَنْ الإيمانِ وَحالَ بَيْنَهُم وَبَيْنَـهُ، وَقالـُوا أنَ الإضْلالَ هُـوَ

عِبارَةٌ عَـنْ جَعـلِ الشَيءِ ضـالاً: كَما أنَ الإخْراجَ وَالإدخالَ عِـبارَةٌ عَـنْ جَعـلِ

الشَيءِ خارِجاً وَداخِلاً,,

وَلكِنْ نُبَيِّن لَكُم أيُها المُفَسِرُون أنَسَيْتُم قَوْل اللهِ تَعالى (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ

وَمَا يَشْعُرُونَ)(آل عمران69) وَالمَعنى فِيهِ كَما تَقول: ضَلَلْتُ الشَيءَ وَضَلِلْتُهُ

إذا جَعَلتَهُ في مَكانٍ وَلَمْ تَدْرِي أيْنَ هُوَ, وَأضْلَلْتُه إذا ضَيَّعتَهُ, وَضَلَّ الناسِي إذا

غَابَ عَنهُ حِفظُ الشِيءِ وَأضْلَلْتُ الشَيءَ إذا وَجَدتَهُ ضالاًّ أوْ كَما تَقولُ أحْمَدْتُهُ

وبَخَلْتُهُ إذا وَجَدْتَهُ مَحْمُوداً وبَخِيلاً وَالضِّلِّيلُ بوَزنِ القِنْدِيلِ المُبالَغِ فِي الضَّلال

الذِي هُـوَ مُوافِقٌ كَقَوْلهِِ تَعالى (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيـدٌ) وَفِي العقـُوبِةِ: قالَ اللـَّهُ

تَعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ)(هُود: 106) وَأما

المُخالِفُ ما أنْـزِّلَ بِعَذابِهِم وَبِغَيرِهِم كانَ أجْـراً هُـوَ كَقولِهِ تَعالى (يَـوْمَ تَبْيَـضُّ

وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتـُمْ)(آل عمران:106)

هذا هُوَ الضَّلالُ وَالهُدى بَيْـنَ الكافِرِ وَالمُؤمِنِ كَما بَيَّنَهُ اللـَّه تَعالى وَقال (فَأَمَّا

الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ

اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ)

وَقالَ المُشْركُونَ مِنْ قُرَيش: ما هـذا مِـنْ مُرادٍ يُريدُ بِـهِ رَبُّ مُحَمدٍ بهذا المَثَلُ

الذِي يُفَرقَ بِـهِ العِبادِ إلى ضَّلالَةٍ وَإلى هُدى, وَلكِن الله لَّما عَلِمَ مِنَ الطائِفَتِينِ

المُؤمِنة وَالكافِرَة: هَدى بكَلِمَتِهِ المُؤْمِنِينَ الَّلذِينَ يَعلَمُونَ أنَـهُ الحَّق مِنْ رَبِهِم

إلى صِراطٍ مُسْتَقِيم, وَأما الَّذِينَ أوْجَـسَ مِنهُم الكُفـرَ زادَهُم بالمِثلِ ضَّلالاً إلى

كُفْرِهِم يَعمُونَ بِـهِ وَهُم فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الخاسِرين,, فَسُبْحانَ الَّذِي قَهَرَ وَآجَرَ

بَيْنَ عِبادِهِ عَما فَوَّت وَانفَرَدَ بالهِدايَةِ وَالإضْلالِ حَتى جَعلَ لأِهْلِ الضَّلالِ زِيادَةَ

شَـرٍِّ إلى شَرِّهِـم يَعمَهُون,, وَلِقَـوْمٍ رَحمَـةً بِزِيادَةِ خَيْـرٍ إلى خَيْرِهِـم بِما كانـُوا

يُؤمِنُونَ وَهُم فِي الآخِرَةِ يُؤْجَرُون, ثمَ ذَكـَّرَ اللهُ تَعالى بحِكْمَتِهِ فِي إضْلالِ مَنْ

يَضِّل وَمَنْ اهْتَدى, فَوَعَدَ ذلِكَ الفَرقََيْنِ: وَقال (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً

وَهُـمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلـُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ

وَمَاتـُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:125) وَالمُرادُ بمَعنى الحَّقِ فِي الآيَةِ: هُوَ اللهُ

المَوجُود حِقِيقَةً المُتَحَقِق وجُودُهُ: وَالحَقُّ هُـوَ ضِـدَّ الباطِل: فوَرَدَ عَنـهُ قـُرآناً

عَلى لِسانِ المُؤْمِنينَ: وَقالُوا (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً)(آل عمران:191)

لأنَهُ هُـوَ الجَوابُ الحَّق الذِي يُعلا وَلا يُعلا عَليه,, وَلكِنْ لَوْ قدَّمْتَ الباطِلَ عَلى

الحَقِّ لَلَزِّمَ عَليهِ كَما لـََزِّمَ الباطِلُ عِنـدَ أهْلِـهِ وجُـود المَعطُوف دُونَ المَعطُوفِ

عَليهِ فَصارَ حَقاً عِندَهُم بَلا سَبيل,أوْ كأنَكَ قلْتَ مََنْ رآنِي فقَدْ رَأى الحَقَّ برُؤْيَةٍ

صادِقةٍ ليْسَتُ مِِنْ أضغاثِ الأحلامِ,, أوْ مَنْ رآنِي حِقِيقَةٌ غَيْر مُشَبَّه يَِعنِي مَتى

ما يَغْلُوا الناسَ فِي القُرآن يَحْتَقوا وَيَقُول كُلَّ واحِدٍ مِنهُم الحَقُّ بِيَدِي,,

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِـهِ كَثِيراً) يَقصِدُونَ

فِي كَلِمَةِ (مَاذَا أَرَادَ) اسْتِرذالٍ وَاسْتِحقارٍ لِلمَثَلِ الذِي ضَرَبَهُ اللهَ لَهُم: والإرادة

مَصْدرٌ تَنْفِيذِيٌ عِندَ المُتَكَلِمِ ما يَقتَضِي تَخصِيص المَفعُولاتِ بَوَجْهٍ دُونَ وَجْـهٍ

وَاللهُ تَعالى مَوْصُوفٌ بالإرادَةِ الكامِلَةِ إذا أرادَ شَيْئاً يَجَعلَهُ طَوْعاً أوْ جَبْراً عَلى

العِبادِ,, فهذا هُوَ خُلْقُ فِعل الضَّلالِ فِي العَبدِ كَما أنَ الهِدايَةََََ خُلْقُ الاهتِداءِ فِيهِ

فَهُما كَصِفَةِ الشََـرِّ وَالخَيْرِ فِي النَفسِ التِي ألْهَمَها اللهُ تَعالى فُجُورَها وَتَقواها

وَلكِن اللـَّهُ عَزَّ وَجَل لا يُحِبُ ضَلاَلةَ العَمَل أي: بُطْلاَنَ العَمَل وَضَياعَهُ مأخُوذٌ

مِنَ الضَلالِ: وَقال (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) وَهُم الخارجِينَ عَنْ طاعَةِ اللهِ

وَرَسُولِهِ وَبهِ سُمِّي العَاصِي فاسِقاً وَما هُوَ أعَمُ مِنَ الكُفرِ,,

وَالمُرادُ بالفاسِقِينَ هُنا الكُفارُ جَمِيعاً وَالمُنافِقِينَ،, وَقـد يَقَـعَ الفُسْقُ عَلى مَـنْ

خَرَجَ بِكُفْرٍ وَعَلى مَنْ خَرَجَ بِعِصْيانٍ أوْ ضَّلالٍ وَهُمُ الكافِرُونَ لِخُبْثِهِم وَعَنادِهِم

قد خَرَجُوا عَلى اللهِ وَقالُوا مَاذَا أَرَادَ بِهَذَا مَثَلاً فَكَذبُوهُ وَمَّا زادُوا بـهِ إلاَّ ضِّلالاً

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ) الآيَـةُ: صِفَـةٌ لِلفاسِقِينَ الّذِيـنَ نَقَضُوا قولِـهِ تَعالى

أرادُوا بـهِ المُراجََة وَالمُرادَدَة فِـي فَسْخِهِ وَإبطالِهِ (مِنْ بَعْـدِ مِيثَاقِـهِ) التَّواثِـقُ

تَفاعُلٌ مِنْ المِثاقِ, وَالمِيثاقُ العَهْدُ مِفْعالٌ مِنْ الوَثَاقِ (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللـَّهُ

بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أي يُعارضُونَ صِلَة إيمانُ العَبيد برَبِهِم, وَالوَصْلُ هُـوَ الجائِزَةُ

وَالعَطيَّة, وَقريـبٌ مِنـهُ يُقال: وَصَـلَ فلانٌ رَحِمَهُ يَصِلـُها وَصْلاً وَصِـلَةً فكأنَـهُ

بالإحْسان إليهم قـدْ وَصَلَ ما بَيْنَهُ وبَينَهُم مِنْ عَلاقَةِ القَرابَةِ وَالصِّهْر,,

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) الفاسِقُونَ الَّلذينَ يُغَيِّرُونَ وَظائِفُ الشَريعَةُ السَمْحاء

عَـنْ جِذُورِها, وَالغايَةُ مِنها تَغيِّيـرُ مَناهِج اللـَّهِ تَعالى فَتَعَمَدَتِ اليَهُودُ بكَتمِهِم

العَهْدَ الذِي أخَذهُ اللهَ عَليهِم فِي التَّوراةِ وَالإنجِيلِ بِأَنْ يَتَّبِعُوا مُحَمَّداً صَلى اللهُ

عَليهِ وَآلِهِ حِينَ يَبْعَثـُهُ اللـَّهُ تَعَالى لِيِصَدِّقُوهُ بِرِسَالَتِهِ وَكِتَابِهِ، وَلكِنَهُم جَحَـدُوا

رِسَالَتَه وَنُبُوَّتَه بَعْدَمَا عَرَفُوهُ, وَكَتَمُوا عَنْ قُرَيشِ وَعدَهُم باللهِ فَكَانَ ذلِكَ مِنْهُمْ

نَقضاً لِلعَهْدِ, فَرافَقَتهُم قُرَيش فأطْلِقَ عَلْيهِم جَمِيعاً (أُولَئِكَ هُـمُ الْخَاسِرُونَ)

بَـلْ خَسِرُوا صِلَتَهُم بِرَبِهِم فِي الدُنيا حَتى جاءَهُم النِداءُ مُصَّادَقاً مِنَ اللهِ: وَقالَ

(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)(النَحل109)

(انتَهى تَفسِير الشَيخُ ألحَجاري)


*****************************

وَكانَ رأيُ آيَـة الله السَيد مَحَمد حسين الطَباطبائي في تَفسِيرهِ لِهذَينِ الآيَتَينِ


(بَيانُ التَفسِير)
قولَهُ تَعالى: إنَ اللهَ لا يَسْتَحْيي أنْ يَضْربَ: البَعُوضَة الحَيْوانُ المَعرُوف وَهُوَ
مِنْ أصْغـرِ الحَيواناتِ المَحسُوسَةِ: وهـذهِ الآيَـة والتِي بعـدَها نَظِيَـرة ما فِـي
سُورَةِ الرَعد (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِـنْ رَبِّـكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُـوَ أَعْمَى إِنَّمَا
يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)(الرعد19)(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ)
(الرعد:20)(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)(الرعد:21)
وَكِيفَ كانَ فالآيَة تشْهَد عَلى أنَ مِن الضَلال وَالعَمى ما يَلحَق الإنسان عَقيب
أعماله السَيئَة غيرِ الضَلالِ والعَمى الذِي لهُ فِي نفسِهِ وَمِن نفسِهِ حَيثُ يَقول
تَعالى(وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) فقـد جَعلَ إضْلالَهُ فِي تلـُو الفُسِقِ لا مُتقدِماً
عَليه هـذا,, ثـُمَ إنَ الهدايَة والإضْلال كِلمَتان جامِعتان لِجَميعِ أنـواع ِالكَرامَةِ
والخذلانِ التِي ترِّد مِنهُ تَعالى عَلى عِبادِهِ السُعداءِ والأشقياءِ، فإنَ اللهَ تَعالى
وَصَفَ فِي كَلامِهِ حال السُعَداء مِـن عِبادِهِ بأنَـهًُ يُحيِّيهم حَياةَ طَيبَـةً ويُؤيدَهُم
برُوح الإيمان وَيُخرجَهُم مِن الظُلماتِ إلى النُور ويَجعَل لهُم نُوراً يَمْشُونَ به
وَهُـوَ وَلِيَهُم وَلا خَوْف عَليهُم وَلا هُـم يَحزَنُون، وهُـوَ مَعهُم يَستَجيب لهُم إذا
دَعُوهُ ويَذكِرَهُم إذا ذكَرُوه، والمَلائِكَة تَنزل عَليهُم بالبُشرى والسَلامُ إلى غيرِ
ذلِك, ووَصَفَ حال الأشقياء مِن عِبادِهِ بأنـَهُ يُضِلَهُم ويُخرجَهُم مِن النـُور إلى
الظُلماتِ وَيَختِم على قلُوبِهِم وعَلى سَمْعِهم, وعَلى أبْصارهِم غشاوَّة وَيطْمس
وجُوهَهُم على أدبارهِـم ويَجعَـل ( فِـي أَعْنَاقِهِـمْ أَغْلالاً فَهِـيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُـمْ
مُقْمَحُونَ)(يّس:8) ويَجعَل (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ
فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(يّس:9)
ويقيضُ لهُم شَياطِين قـرناء يُضِلونهُم عَـن السَـبيل ويَحسبُونَ أنهُم مُهتَدُون
ويزينُونَ لهُم أعمالَهُم وَهُم أوْلياؤهُم ويَسْتدَرَجَهُم اللـَّه مِن حيثُ لا يَشعرُون
ويُمْلي لهُم إنَ كَيْدهُ مَتِين، ويَمْكـر بهِم ويَمُدُهُم في طغيانِهم يَعمَهُون,, فهذهِ
نبْـذةٌ مما ذكـرَهُ سُبْحانَهُ مِـنْ حـالِ الفريقَينِ وظاهِرُها أنَ للإنسان في الدُنـيا
وراء الحَياة التي يعيـشُ بها فِيـها حـياةً أخْـرى سَعيدَة أو شَقِيَة ذات أصُول
وأعراق يَعِيش بها فيها وسَيَطلَع ويَقف عَليها عِندَ انقِطاعِ الأسبابِ وارتِفاعِ
الحِجاب، ويَظهَر مِنْ كَلامِهِ تَعالى أيضاً أنَ لِلإنسانِ حياةٌ أخْرى سابقة عَلى
حياتِهِ الدُنيا يَحذوها فِيها كَما يَحذو حَذو حَياته الدُنيا فِيما يَتلُوها,,
وَبعبارَة أخْرى إنَ لِلإنسانِ حياةٌ قبَلَ هذهِ الحَياة الدُنيا وَحياةٌ بعدَها, والحَياةٌ
الثالثة تَتبِع حُكْم الثانِيَة, والثانية حُكْم الأولى، فالإنسانُ وهُوَ في الدُنيا واقع
بَينَ حَياتَين سابقة ولاحِقة، فهذا هُوَ الذِي يَقضِي به ظاهِر القرآن,,
لكن الجمْهُور مِـنَ المَفسِرينَ حَملـُوا القِسْم الأول مِـنَ الآياتِ وَهِيَ الواصِفة
لِلحياةِ السابقَة على ضَربٍ مِنْ لِسانِ الحالِ واقتِضاء الاسْتِعداد,,
والقسـم الثانـي: منـها هِيَ الواصفـة للـحياةِ اللاحقـة علـى ضـروب المـجاز
والاستعارة هذا إلا أن ظواهر كثير من الآيات يدفع ذلك,,
أما القِسْم الأوَل: وهِيَ آياتُ الـذّر والمِيثاق فسَتأتِي فِي مَواردِها وَأما القسْم
الثانِي فكَثِيـر مِـنَ الآياتِ دالَـة على أنَ الجَزاءَ يـوم الجَـزاء بنَفـسِ الأعمالِ
وعَينِها كَقولِهِ تَعالى(لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(التحريم7
وقوله تَعالى (كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(البقرة281) وقوله تعالى
(فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)(البقرة24)
وقوله تعالى (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ, سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)(العلق18) وقوله تعالى (يَوْمَ تَجِدُ
كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) (آل عمران:30)
وقولـه تَعالى (مَا يَأْكُلُونَ فِـي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ)(البقرة:174) وقولـه تَعالى
(إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً)(النساء10) إلى غير ذلِكَ مِنَ الآياتِ وَلعَمْري
لَـوْ لـََمْ يَكُن في كتابِ اللهِ تَعالى إلا قوْلَهُ (لَقَـدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِـنْ هَـذَا فَكَشَفْنَا
عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيـدٌ)(قّ:22) لَكانَ فيهِ كِفايَة إذ الغَفلَة لا تَكُون
إلا عَن مِعلُومٍ حاضِرٍ، وَكَشْفُ الغِطاء لا يَسْتقِيم إلا عَنْ مُغطِى مَوجُود, فلَوْ لمْ
يِكُن ما يُشاهِدِهُ الإنسان يَـوم القِيامَةِ مَوجُوداً حاضِراً مِـن قبْـلِ لَّما كانَ يَصِحُ
أنِ يُقال لِلإنسانِ إنَ هـذِهِ أمُور كانَت مَغفُولَةً لكَ, مَسْتُورَة عَنـكَ فهِـيَ اليَـوْم
مَكشُوف عَنها الغِطاء، مزالَة مِنها الغَفلَة,,
وَلَعَمْري إنكَ لَوْ سَألتَ نَفَسَكَ أنْ تَهْدِيَكَ إلى بَيانٍ يَفِي بهذِهِ المَعاني حَقِيقةً مِن
غَيرِ مَجازِ لَّما أجابَتكَ إلا بِنَفسِ هذِهِ البَياناتِ والأوصافِ التِي نزَلَ بها القُرآن
الكَريم, ومُحصل الكَلام أنَ كلامَهُ تَعالى مَوضُوع عَلى وجْهَينِ: أحدَهُما وَجَه
المُجازاةِ بالثوابِ والعِقاب، وَعليهِ عـدَد جَّم مِنَ الآياتِ تَفِيـد أنْ ما سَيَّسْتَقبلَ
الإنسانُ مِن خَيرِ أوْ شَّـرٍ كَجَنةِ أوْ نارٍ إنَما هُوَ جزاءُ لِّما عَمَلهُ في الدُنيا مِـنَ
العَملِ وثانيهما: وَجَه تَجسُم الأعمال وعليهِ عِدَة أخْرى مِنَ الآياتِ وهِيَ تَدِلُ
عَلى أنَ الأعمالَ تُهَيـئ بأنفـُسِها أوْ باسْتِلزامِها وَتأثِيـرها أمُـوراً مَطلوبَـة أوْ
غيرِ مَطلوبَةٍ أيْ خَيراً أوْ شَراً هِيَ التِي سَيَطلِع عَليهِ الإنسان يَوم يُكْشَف عَنْ
ساقٍ, وإياكَ أنْ تتَوَهَمَ أنَ الوَجهَينَ مُتنافِيان فإنَ الحَقائِقَ تُقَرب إلى الأفهامِ
بالأمْثالِ المَضْرُوبَةِ كَما يَنـُص عَلى ذلِكَ القـرآن وَقوله تَعالى (إلاَّ الفاسِقِينَ)
الفُسْقُ كَما قِيلَ مِنِ الألفاظِ التِي أبَدَعَ القرآن اسْتِعمالَها فِي مَعناها المَعرُوف
مأخُوذٌ مـِنَ فَِسْقَت التَمْرَة إذا خَرَجَت عَـنْ قِشْرِها وَجِلدِها, ولِذلكَ فسَّـرَ بَعدَهُ
بقولِهِ تَعالى (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْـدِ مِيثَاقِهِ)(البقرة27) والنَقضُ
إنما يَكُون عَن إبْرامٍ ولذلِكَ أيضاً وُصِفَ الفاسِقِينَ في آخِـر الآيَةِ بالخاسِرينَ
والإنسانُ إنما يَخسَر فِيما مَلكَهُ بِوَجْهٍ، قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
وإياكَ أنْ تَتَلقى هذِهِ الصِفاتِ التِي أثبَتَها سُبْحانَهُ في كتابِهِ لِلسُعَداءِ مِن عِبادِهِ
أو الأشقِـياءِ مِثـل المَقرَبينَ والمُخلَصِّينَ والمُخبَتِيـنَ والصالِحينَ والمُطهِرينَ
وغيْرِهِم ومَثلُ الظالِمينَ والفاسِقِينَ والخاسِرينَ وَالغاوِّينَ والضالِينَ وأمْثالُها
أوْصافاً مُبْتَذلَة أوْ مأخُـوذة لِمُجَرَدِ تَزييـنِ اللَّفـظ فتَضْطَرب بذلِكَ قريحتُكَ فـي
فِهِمِ كَلامِهِ تَعالى فتَعطف الجَمِيع على وادٍ واحِدٍ وتأخُذها هَجاء عامِياً وحَدِيثاً
ساذِجاً سُوقِياً بَل هِيَ أوصافُ كاشِفة عَنْ حقائِقِ رُوحِيَةٍ وَمقاماتٍ مَعنوِّيةٍ في
صِراطَّي السعادَةِ والشَقاوَة, كُلّ واحِد مِنها في نفسِهِ مَبْدأ لآِثارِ خاصَة وَمُنشأ
لأِحكامِ مَخصَوصَةٍ مَعينَةٍ, كَما أنَ مراتِبَ السنُ وخصُوصِيات القُوى وأوْضاع
الخِلقة فِي الإنسانِ كُلٌ مِنها مُنشَأ لأِحكامِ وَآثارٍ مَخصُوصَة لا يُمَكِنَنا أنْ نَطلُبَ
واحِداً مِنها مِـنْ غَيـرِ مَنشَئِهِ ومحتَدِهِ، ولَئِـن تَدَبرَت فـي مَواردِها مِـنْ كَلامِهِ
تَعالى وأمْعَنت فِيها وَجَدَت صِدق ما ادَعَيْناه,, (انتهى تَفسِير الطَباطَبائِي)

مِـن شَبكَـةِ جامِـعُ البَيان فـي تَفسِيـر القـُرآن
لِلعَلامَة الشيخُ ألحَجاري الرُمَيثي مِنَ العِراق

z زهـٌِـرّةِ آلــيــآسٍــٌمِـيـ،ـنـِْﮯ
10-28-2010, 12:24 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم والعن اعدائهم