المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : استبصار المستشرق الفرنسي هنري كوربن على يد العلامة الطباطبائي


قل هو الله أحد
10-22-2011, 03:05 AM
استبصار المستشرق الفرنسي هنري كوربن على يد العلامة الطباطبائي
مقدمة :
ولد المستشرق الفرنسي (هنري كوربن) في سنة 1903 م الموافق لـ 1321 هـ في باريس عاصمة فرنسا ، وتوفي في عام 1979م المصادف لـ 1399هـ .

حصل من جامعة السوربون على الليسانس في الفلسفة (1925)، والدبلوم العالي (1926) ثم على دبلوم معهد الدراسات العليا من جامعة باريس (1928) ودبلوم مدرسة اللغات الشرقية في باريس (1929) .

في الإسلاميات كان تلميذاً للويس ماسينيون، وقد اختير أستاذاً لكرسي الإسلاميات في مدرسة الدراسات العليا بجامعة السوربون خلفاً لماسينيون وبإصرار منه، وظل يشغله حتى أحيل إلى التقاعد.

وفي عام 1946م اختارته وزارة الخارجية الفرنسية رئيساً لقسم الإيرانيات في معهدها بطهران، وهو من المؤسسين الأصليين لمؤسسة الإيرانيات التي نشر فيها الوافر من دراساته. وقد كافأته إيران بالأوسمة والألقاب.

آثاره ومؤلفاته :
بلغت 197 عنواناً طبعت في طهران وباريس ، منها:
كشف المحجوب ـ رسالة في المذهب الإسماعيلي ، وللسهروردي: حكمة الإشراق النص العربي، ورسالة في اعتماد الحكماء
، وكتاب جامع الحكمتين.

تأثير العلامة الطباطبائي عليه :
كان لاتصال هنري كوربن بالمرحوم العلامة الطباطبائي ومساعيه في ترجمة تراث العرفان ‏لدى الشيعة للغربيين أثر كبير عليه .

فعندما احس بالفراغ المعنوي لدى‏الغرب رأى في العرفان الشيعي خصوصيات ملأ ذلك الفراغ فاقترحه ، ثم جاء الى ايران وبذل مجهودا كبيرا للتعرف على‏ العرفاء والفلاسفة في المجتمع الايراني .

ثم أقام علاقة وثيقة مع المرحوم العلامة الطباطبائي وتتلمذ على يديه ثم نقل محاضراته‏ للفرنسية.
وقام تلامذته ومساعدوه بنقلها للانجليزية ايضا ونشروها عالميا .

خصائص كوربن النفسية :
لقد كان البروفيسور هنري كوربن من المستشرقين المشهورين ، كما كان يُعدّ من العلماء الأوربيين الذين لهم اطِّلاع واسع بعلم الحكمة في الشرق .

إسلامه :
أصبح لـ ( كوربن ) بعد سنوات من البحث والدراسة في الدين الإسلامي ميل للإسلام ، وبالخصوص للأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) .

وبعد دراسة الدين الإسلامي واطَّلاعه على حكمة الإشراق لـ( السهروردي ) ، أخذ يهتم بعلوم الحكمة والعرفان المنتشرة في ( إيران ) .

وشيئاً فشيئاً أصبح بعيداً عن الأفكار الغربية ، وعن أستاذه في أوروبا ( لويي ماسينيون ) .
فاعتنق الدين الإسلامي ، ثم سافر إلى ( إيران ) لإشباع رغبته من الحكمة والإشراق .

وأسس في ( فرنسا ) قسم تاريخ ( إيران ) وأُمَمها القديمة ، وكان يهدف من وراء ذلك الى نقل التراث العرفاني الإيراني إلى المهتمِّين به في أوروبا والغرب .

وكان يقضي معظم أوقاته خلال السنوات التي قضاها في إيران بمناظرة علماء الشيعة ، ومباحثتهم ، وتبادل وجهات النظر معهم .

تشيعه :
وبعد أن اعتنق الدين الإسلامي اختار المذهب الشيعي الإثنا عشري ، مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وأصبح بفضل الله من الفرقة الناجية .

وذلك لأنّ مذهب التشيع هو وحده الذي يعتقد - بعد ختم النبوة بالرسول محمد صلى الله عليه وآله - باستمرار رابطة الهداية والتكميل عبر ولاية الأئمة الباقين والذي لابد من وجود أحدهم حي الى يوم القيامة.

فوجود هذه الحقيقة بين الانسان وبين الله الى الأبد إنما هو في مذهب التشيع فقط .

أي إنّ الاعتقاد بالامام المهدي ع في هذا الزمان كان من أهم الاسباب لاختيار الدكتور كوربن للتشيع من بين المذاهب الاسلامية الاخرى .

وقد ذكر الاستاذ جلال الدين آشتياني في ‏مقال له ان كوربن عندما حضرته الوفاة كان يترنم بعبارات من الزيارة المعروفة لصاحب الزمان (عج) : (السلام على ‏صاحب الدعوة النبوية ... ).

وهذا يدلل على ان المسالة عند كوربن أسمى من مجرد ترجمة تراث ثقافي، بل كانت لديه رغبة جامحة وذاتية لموضوع الامام المهدي ع .

الاستشراق والاسلام :
وامثال كوربن موجودون في الغرب ، كالسيد (مادلون) مؤلف كتاب (خلافة محمد)، وقد ترجم الكتاب من قبل ‏الروضة الرضوية واختير كتاب العام ايضا، الا ان الكاتب تعرض لانتقادات حادة من قبل الوسط الوهابي وغيره،و حتى من‏ قبل الغربيين انفسهم.

نعم يندر وجود مستشرقين منصفين في كتاباتهم عن الإسلام والقرآن ورسوله (ص) ورجاله وتاريخه بشكل نزيه ...

ولكن المستشرق الدكتور «هنري كوربان» من القلائل الذين فهموا حقيقة التاريخ الإسلامي وكتبوا بنزاهة وانصاف ، واكتشفوا حقائق كبيرة في الدين الإسلامي الحنيف .

وقد استغل كوربان فترة وجوده الطويلة في إيران فاطلع على المخطوطات والوثائق الإسلامية ، واتصل بكبار رجال الفكر والدين هناك خاصة مع العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي الذي يعتبر رائداً في منهج البحث العقائدي الحديث .

بداية قصة الدكتور كوربن مع التشيع :
وقد بدأت قصة كوربان مع فكر أهل البيت (ع) عندما طلب لقاء مع السيد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان لأجل المناقشة القائمة على أساس تقبل وجهات النظر المنطقية ..

وكانت النتيجة مثمرة ومفيدة فيما أراد كوربان من نقاط طرحها وناقشها مع السيد الطباطبائي.

والحقيقة أن الطباطبائي أنطلق في حواره مع كوربان من نقطة أنّ الإسلام الأصيل وعلوم أهل البيت (عليهم السلام) لم تعرف طريقها إلى العالم الغربي ..
وذلك لأن المستشرقين الذين درسوا الإسلام عكسوا بُعداً واحداً عن الاسلام ، من خلال اعتمادهم على مصادر فريق واحد وإهمالهم للفريق الآخر ..

فكانت نتيجة ذلك أن الصورة التي تشكلت لدى الغرب عن التشيع لم تزد عن كونه فرقة منشقة عن الإسلام ، واختلفت مع الأكثرية على قضايا منها الخلافة والحكم.

وقد ذكر كوربان نفسه كما يقول السيد الطباطبائي أن ما جناه المستشرقون حتى الآن من معلومات عن الإسلام اقتصر على مصادر أهل السنة ولم يتجاوزها إلى غيرها أبداً ، بحيث لم ينفتح هؤلاء المستشرقون على غير هذا المحيط من مصادر ورجال ، بل نراهم عادوا إلى مصادر أهل السنة وعلمائهم في تشخيص المذاهب الإسلامية المختلفة.

أهم أسباب تشيعه :
إنّ من أبرز النقاط التي قادت كوربان للتشيع هو ما في المذهب الشيعي من قضية الولاية ، بالأضافة إلى قضية أخرى لا تقل أهمية عن النقطة الأولى إنها قضية الإمام المهدي (ع) وإيمان الشيعة الاثني عشرية بعودته لأجل إحياء علوم وسنة جده المصطفى (ص) من جديد .

وصف العلامة الطباطبائي لكوربن :
لقد وصف العلامة الطباطبائي عقلانية وصفاء سريرة هنري كوربان بقوله :
(كان كوربان رجلاً سليم النفس يتسم بالموضوعية والإنصاف ، وغالباً ما كان يقرأ أدعية الصحيفة المهدوية وهويبكي ، إنّ كوربان الذي درس القرآن الكريم بعمق وجاهد نفسه للوصول إلى الحقائق الإسلامية من خلال مدرسة أهل البيت (ع) ، جعلت منه إنساناً لا يخشى في الحق لومة لائم ، وليس هذا بالشيء الغريب ، لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا في محكم تنزيله أن الذي يأتم بالذكر الحكيم الذي لا يعلم حق تأويله إلا هو سبحانه والراسخون في العلم أئمة الهدى (ع) فإن الله سيقوده إلى شاطئ الأمان (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) ).

ماذا يقول كوربن :
لقد أسفر اطلاع كوربان على مذهب أهل البيت (ع) من خلال ما قرأ لكبار رجال هذا المذهب من السابقين ومن اللاحقين ، وتأثره الشديد بتراث الميرداماد وبمؤلفات صدر المتألهين الشيرازي ، بالإضافة إلى حواراته مع العلامة الطباطبائي ، كل هذا أسفر عن نتيجة حاسمة ونهائية توجت أبحاثه عن هذا المذهب النقي ، ويمكن لنا أن نورد شيئاً من هذه النتيجة معتمدين في هذا على ما قاله كوربان نفسه عن هذا المذهب :

( في عقيدتي أن التشيع هو المذهب الوحيد الذي حفظ بشكل مستمر رابطة الهداية بين الله والخلق ، وعلقة الولاية حية إلى الأبد ، فاليهودية أنهتْ العلاقة الواقعية بين الله والعالم الإنساني في شخص النبي موسى (ص) ، ثم لم تذعن بعدئذ بنبوة السيد المسيح والنبي محمد (ص) ، فقطعتْ الرابطة المذكورة ، والمسيحية توقفتْ بالعلاقة عند المسيح عليه السلام ، أما أهل السنة من المسلمين فقد توقفوا بالعلاقة المذكورة عند النبي محمد (ص) ، وباختتام النبوة به لم يعد ثمة استمرار في رابطة العلاقة (في مستوى الولاية) بين الخالق والخلق ، التشيع يبقى هو المذهب الوحيد الذي آمن بختم نبوة محمد (ص) وآمن في الوقت نفسه بالولاية ، وهي العلاقة التي تستكمل خط الهداية وتسير به بعد النبي وأبقى عليها حية إلى الأبد ).

ويقول أيضاً :
(ما تحصل لي من خلال مطالعاتي وبحوثي العلمية - كوني مستشرقاً مسيحياً بروتستانتيا - أنه يجب النظر إلى حقائق الإسلام ومعنوياته من خلال الشيعة الذين يتحلون برؤية واقعية للإسلام ).

إن معارضة كوربان للفكرة التي نقلها المستشرقون عن الإسلام والتشيع إلى أبناء الغرب جعلت منه باحثاً متفرداً وعالماً متميزاً في طريقة البحث والدراسة وفي طريقة إيصال نتائج هذه الدراسات والبحوث إلى عالم الغرب المادي الذي تشرب بالأفكار الخاطئة عن دين لا يعلم عن حقيقته إلا ما نقل إليه من صور مشوهة عنه .

ويقول كوربن في ذلك :
( من هذه الجهة بذلت جهودي على قدر ما أستطيع لتعريف العالم الغربي بمذهب التشيع على النحو الذي يليق به ويتسق مع واقعية هذا المذهب ، وسأبقى أبذل الجهود في هذا الطريق ).

وبالفعل فقد وفى الدكتور كوربان بوعده وبقي مخلصاً لمبدئه فيما يتعلق بنشر الفكر الإسلامي الشيعي المرتكز على فكر وتعاليم أهل البيت الرسول المصطفى (ص) .

وكان من حصيلة هذه الدراسات التي قام بها كوربان أن خرج بالعديد من الكتب عن المذهب الشيعي ولعل من أبرز هذه الكتابات الكتاب الذي يحمل عنوان «عن الإسلام في إيران – مشاهد روحية وفلسفية» وقد قام الأستاذ نواف الموسوي بترجمته إلى اللغة العربية ويتوزع الكتاب المذكور على سبعة فصول وهي:

1- التشيع وإيران.
2- مفهوم التشيع الأثنى عشري.
3- معركة التشيع الروحية.
4- ظاهرة الكتاب المقدس.
5- في الباطل والتأويل.
6- مبحث النبوة ومبحث الإمامة.
7- معنى الإمام للروحانية الشيعية.

وهذا الكتاب يقع في أربعة أجزاء وتمت ترجمة الجزء الول منه فقط للمترجم المذكور.

أثر كوربن على تغيير نظرة الغرب عن التشيع :
والأثر الذي تركه الإسلام عموماً والمذهب الشيعي خصوصاً على «هنري كوربان» بعد أن أمضى ما يقارب ثلاثة عقود من الزمن في دراسة هذا الفكر العميق ، يتجلى في تغير النظرة المشؤمة في العالم الغربي عن الإسلام كدين سماوي وعن المذهب الشيعي كفكر إسلامي أصيل ..

ومن أشهر من تأثر بكوربن الأستاذ «فرانسوا توال» فقد اهتم بالتشيع ، ومن أشهر ما كتبه (توال) كتاب بعنوان (جيوبوليتيك التشيع) .

ويقول (توال) مؤكداً تأثره بالدكتور هنري كوربان :
(منذ وقت طويل انصب اهتمامي على التشيع بعد أن اطلعت على مؤلفات هنري كوربان التي التهمتها كلها ) .

ويؤكد (فرانسوا توال) على أن الإسلام بمفاهيمه الروحية والعقائدية العامة لن يتم فهمه ما لم نفهم نحن أهل الغرب المذهب الشيعي القويم ، ويؤكد قائلاً :
( سيبقى هذا العالم الإسلامي غير مفهوم منا سواء كان بشكله السياسي أو بشكله الجيوبوليتيكي أو بشكل حوار الأديان إذا كنا لا نعرف التشيع ).

إنها نفس الفكرة التي كان يكررها ويؤكد عليها أستاذه هنري كوربان .

لقد مات هنري كوربان عام 1980 ولكنه كما يقول عنه «ضياء الدين دهستري» مترجم كتاب كوربان (أرض ملكوت) :

( إن كوربان أشهر إسلامه سنة 1978 بعد أن قدم خدماته العلمية الجليلة للعالم الغربي وأفنى حياته في سبيل إعلاء ونصرة الفكر الشيعي المحتضن والمقتفى للآثار والمبادئ الفكرية الخالدة لأهل البيت المطهر ين(ع) )
--