المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اضواء على تراث الزهراء


البصري
03-20-2009, 07:17 PM
1ـ تمهيد
2ـ أبعاد الجاهليّة
3ـ فلسفة الإسلام



1ـ تمهيد
تُعرف قيمةُ الإنسان بما يقدّمه للأجيال التي تعاصره أو تعقبه من عطاء حضاري يُدلها على السّبيل الذي يجب أن تلتزمه في حياتها ،وتتفاعل معه ، ويرفعها إلى مستواها اللائق تحت الشّمس.
وأقول : العطاء الحضاري ، لأنّ النّوع الإنساني مجبول على التّفاعل مع الكون بما فيه من قوىً وطاقاتٍ بدافع حبّ الإستطلاع والتملُّك ، ومع أبناء جنسه بدافع غريزة التجمع الفطرية المركوزة في كيان الإنسان.
وهذا التفاعل بشتّى شطريه : « مع الكون أو الإنسان » يحتاج إلى التّنظيم والصّقل ، ابتعاداً عن الإضطرابات والنّزاع والحروب والبغضاء بين أبناء النّوع الإنساني ، وهذا التّنظيم لا يتمُّ بطبيعة الحال بصفة ميكانيكية عن طريق استعمال أدوات خاصّة تتحقّق على يديها المعجزة ـ معجزة التّنظيم في كيان المجتمع الإنساني ـ وإنّما يتمُّ ذلك عن طريق واحد : هو الفكر ، هو التشريع ، هو التقاليد التي يتبنّاها النّاس وينضوون تحت لوائها ، لأنّها ـ وحدها ـ التي تنظّم حقوق الفرد والمجتمع وواجباتهما.
ولمّا كانت الحضارة ـ المفاهيم عن الكون والحياة والإنسان ونحوها ـ هي



وحدها التي تستطيع أن تنهض بهذه الأعباء الجسيمة ، فلا بدّ أن يكون افتراضنا وقعيّاً ومنطقيّاً ، حينما قلنا : إنّ قيمة الإنسان تتمثّل بعطائه الحضاري.
وتحت نقطة أُخرى يجب أن نلتفت إليها بهذا الصّدد ، إنّ الإنسان الّذي لا يتبنّى مبدءاً في حياته يعيش من أجله ويخضع لمتطلّباته ويكافح في سبيل تطبيقه أو تثبيته أو نشره في الأرض ، هذا الإنسان لا تختلف حياته عن حياة البهائم ـ على الإطلاق ـ حيث أصبح همُّه أن تمتلىء معدته أو يؤنّق لباسه فيعيش كما يحلو له ، وهذا الصّنف من النّاس صفعهم القرآن ـ وهو منهج خالق الإنسان ـ بقوله « ... والذين كفروا يتمتّعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنّار مثوىً لهم »(1).
ولهذا ترى القادة من أهل البيت ( عليهم السلام ) نهجوا السّبيل الذي جعلهم يعيشون من أجل المبدأ الإسلامي القويم حيث أخضعوا كلّ متطلّبات حياتهم لصالح منهج الله سبحانه ، فانطلقوا يتحدّثون باسم المنهج ويسلكون ما رسمه ويفكرّون في حدود معالمه القويمة.
والزهراء ( عليها السلام ) مدرسة الإمامة وغرس النبوّة ـ كانت على المستوى ذاته ، فأوقفت حياتها الرُّوحية والفكريّة والجسميّة خدمةً للرّسالة وذوداً عن حياضها.
وقد ضربت في ذلك أروع الأمثلة وأنصعها ، وممّا يجلي هذه الحقيقة النّاصعة : الرُّجوع إلى تراثها الفكريّ الضخم الذي خلّفته لأجيال الأُمّة الإسلامية ضاربةً لهم أروع الأمثلة في الذّود عن حياض الرسالة وتبيان معالمها القويمة. ولعلّ الباحث في حياة الصّدّيقة الزهراء لا يجد في تراثها الحضاري الضّخم أعظم من خطبتها التي ألقتها في مسجد أبيها ، والتي لو ورثناها وحدها منها لدلّت ـ بوضوح وجلاء ـ على عظمة شخصيّة الزهراء ( عليها السلام ) لأنّها قد جسّدت كلّ آرائها ومناهجها التي استقتها من منهل الوحي المقدّس.
والمتتبّع التّأريخي لحياة الزهراء لا يمكن أن يفصل خطبتها عنها ، لأنّ خطبتها أضخم رصيد لفهم شخصيتّها على الصّعيد الواقعي والمنطقي ولذا فليس بدعاً من الأمر أن نخصّص فصلاً خاصّاً لألقاء الأضواء على بعض جوانب خطبة
____________
(1) سورة محمد آية | 12.


الزهراء ( عليها السلام ) لمعرفة أبعاد شخصيتها الفذّة ومدى هظمها لمنهج السّماء المبارك ، واستيعاب معالمه الرئيسة.
وحين نؤكّد ـ هنا ـ أهميّة خطبة الزهراء لا نريد بذلك ، أن نجرّد الزهراء عن باقي تراثها الحضاريّ الضخم ، ذلك لأنّ التأريخ قد أتحفنا بكثير من النُّصوص التي باستطاعتنا أن نستقي تراثها الحضاريّ منها ، ولكنّنا وجدنا أنّ أبرز شيء في تراثها : خطبتها التي ألقتها في مسجد أبيها في مطلع خلافة أبي بكر.
كما أنّ هذه الخطبة قد جمعت كلّ تراثها وفهرسته في آنٍ واحد ، وهذا ممّا حدا بنا أن نلقي أضواءً على بعض جوانب الخطبة الرائعة التي جمعت كما يتّضح أروع المفاهيم الإسلامية في الحكم والمجتمع ومعالم التّشريع الإسلامي الرّصين. وسنورد بعض نصوصها إبقاءً لغرضنا في البحث.



2ـ أبعاد الجاهليّة
« ... فرأى الأُمم فرقاً في أديانها ، عُكّفاً على نيرانها ، عابدةً لأوثانها ، منكرةً لله مع عرفانها ، فأنار الله تعالى بأبي محمد ظُلمها ، وكشف عن القلوب بهمها وجلى عن الأبصار غممها ، وقامَ في النّاس بالهداية ، وأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهدادهم إلى الدّين القويم ، ودعاهم إلى الصّراط المستقيم ... ».
هذا مقطعٌ قصير من خطبة الزهراء ( عليها السلام ) والذي نحن بصدد بسط مفاهيمه النّاصعة.
والباحث المتتبع حين يستقرىء هذه الكلمات الوضّاءة يقطف أشهى الثّمار منها ، فيستنبط مفهوماً إسلامياً رائعاً عن الجاهليّة التي رزحت البشريّة تحت أعبائها الثقيلة ، قبل بزوغ شمس الإسلام الحنيف على يد الرسول العظيم محمد ( صلى الله عليه وآله ).
فالزهراء ( عليها السلام ) تفهرس لنا حياة البشريّة برمّتها قبل أن يصدع أبوها القائد برسالته السّماويّة المباركة ، فهناك الّذين فرقوا دينهم شيعاً وأخضعوه لمتطلبات شهواتهم ورغباتهم كاليهود والنّصارى.
وهناك العاكفون على الأوثان الخاضعون للأصنام التي صنعوها بأيديهم واتخذوها آلهةً من دون الله سبحانه ، معتقدين بقدرتها على الخلق والإبداع والرّزق والتوفيق والنّصر.



وهذا ما كانت عليه الجزيرة العربيّة حيث دان العرب لهذا النوع من التدّين ، فملؤا بيت الله الحرام بركام من الأحجار والصُّخور ، دعوها آلهةً تقرّبهم ـ بزعمهم ـ إلى الله زلفى.
وإلى جانب هذا المنهج الماديّ الطائش نشأت عبادة النيران والإنصياع لها والسّير وفقاً لمنهج خرافي هابط يعزز مفهوم هذه العبادة الخرقاء ، وقد رزحت بلاد فارس تحت هذا النّوع من التديُّن الأجوف على يد الدّين المجوسيّ.
وإلى جانب هذه الأنواع من الأديان الوضيعة نشأ خليط من الأديان ، سارت عليه الدّولة البيزنطية التي تمثل المعسكر الغربي للعالم ـ يومذاك ـ حيث خلطت مفاهيم الكنيسة المسيحيّة مع المفاهيم الوثنيّة الماديّة مما كون خليطاً جاهليّاً جديداً في عالم الأديان الترابية.
وعلى ضوء ما رسمته الصدّيقة الزهراء ( عليها السلام ) ـ هنا ـ نستطيع أن نستنبط النقطتين الآتيتين : ـ
1ـ إنّ الأديان والمناهج الفكرية والإجتماعية التي تتمخض عن تفكير الإنسان ، أو التي أضافها الإنسان إلى بعض الشرائع السالفة ، كلّ ذلك يؤلّف جاهلية واحدة ، وإن تعدّدت أشكالها وألوانها ، لأنّ الجاهلية في منطق الزهراء ـ كما يبدو ـ وهو الإبتعاد عن منهج الله الذي بشّر به الرُّسل والأنبياء ـ عليهم السلام ـ وتطبيق سواه على واقع الإنسان الكفريّ والعمليّ ، سواءً أكان ذلك ديناً وثنياً ماديّاً أو خليطاً من مفاهيم سماويّة وأُخرى وضعيّة ، حيث عبّرت الزهراء ( عليها السلام ) عن الواقع ـ بما فيه الدّين اليهودي والمسيحيّ ـ بالظُّلم والغمم والبهم والغواية والعماية ، وهذا يدلُّنا ـ بوضوح ـ على أنّ الدّيانتين السابقتين خاضعتان للأنحراف أيضا ، وإلاّ لماذا وصفتهما الزّهراء ( عليها السلام ) بالعماية والغواية ونحوها من النُّعوت دون استثنائهما ؟
فاليهوديّة والنّصرانيّة كانتا ـ في ذلك العهد ـ قد صفّيت حساباتهما ، وانحرفتا عن السّمة الإلهية الأصيلة.
3ـ حين تعلن الزهراء ( عليها السلام ) أنّ المناهج كلّها قد انحرفت عن منهج الله سبحانه وأُصيبت بداء الغواية والعماية على حدّ تعبيرها يدلُّنا هذا على أنّها إنّما أرادت أن



تعلن للجاحدين أنّ أباها لم يأتِ برسالته السّمحاء إلا عن طريق واحد ، هو طريق الوحي المقدّس ـ طريق السّماء والإصطفاء والنبوّة ـ وليس عن طريق بلورةٍ وتفاعل للمفاهيم الدينيّة السّائدة ، وصبّها في قالب جديد ، ذلك لأنّ المفاهيم الدينيّة السّابقة قد انحرفت جميعاً عن منطق الحق والإستقامة ؛ فكيف تقوى إذا مزجت وبلورت على خلق نظام متناسق كرسالة الإسلام المقدّسة وهذا ما يجعل العقول البشريّة تطمئن إلى كون رسالة محمد ( صلى الله عليه وآله ) وتعاليمه وتلقيناته قد تلقّاها من السماء بعيداً عن أوضار الجاهلية وآفاق الأرض وانحرافاتها.
وحين ترسم الزهراء ( عليها السلام ) هذه الحقيقة النّاصعة تنطلق ـ في مقطع آخر من خطبتها الرائعة ـ لتبيان الملابسات التي اتّسمت بها الجاهليّة في الجزيرة العربية ، فهي قد أعطت القاسم المشترك للجاهليّات المتمثّل برفض منهج الله واستبداله بنتاج العقول البشريّة القاصرة ، ثم انطلقت لتبيان السمات الأُخرى التي تختص بها جاهليّة الجزيرة العربية ، فضلاً عن اشتراكها مع غيرها بسمة الخروج عن حكم الله ومنهجه ، فتقول مخاطبة العرب : « ... وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشّارب ونهزة الطّامع وقبسة العجلان ، وموطىء الأقدام ؛ تشربون الطرق ، وتقتاتون القدّ ، أذلةً خاسئين تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله بأبي محمد ... ».
وفي هذا المقطع الجديد من خطبة الزهراء ( عليها السلام ) تنعكس أمامنا صورة واقعية لظلامات الناس في الجاهليّة التي أطبق ليلها على الجزيرة العربية قبل أن يشع نور الهداية الساطع.
ونستطيع هنا أن نميز النقاط الآتية :
1ـ إبتعاد العرب نهائياً عن ظلال الحق والواقع ، مما جعلهم يقفون على شفير الهاوية ، وذلك نتيجة عدم استظلالهم بنور الهدى الذي جاءهم على يد الرسول الكريم إبراهيم وابنه إسماعيل ( عليهما السلام ) وتحويلهم رسالة السماء وتعاليمها الى عبادة لأوثان صنعوها من الحجارة ، وملأوا بها بيت الله الحرام بحجة أنها تقربهم الى الله زلفى.
2ـ تفرّقهم المرير وعدم قدرتهم على التجمُّع حتى على أساس قومي ، فكانت



الحروب الدّامية تدور رحاها بينهم ، ومنها ما يستمرُّ عشرات السنين بين قبائلهم المتناحرة على الماء والكلأ ، مما جعل الإستيلاء عليهم أمراً لا يحتاج إلى بذل كثير من جهد : « مذقة الشّارب ، ونهزة الطّامع ، وقبسة العجلان ، وموطىء الأقدام ».
فهم هدف لكلّ غازٍ ومستعمر وفاتح ، فقد غزاهم الأحباش واستعمروا بعض أراضيهم ، أُسوة بالفرس والرُّومان ، فالذّلة والمسكنة والوهن كانت صفة ملازمة للعرب في جزيرتهم ، لا حول لهم ولا طول في إقامة مجتمع أو إنشاء أُمّة أو دفاع عن حمىً أو وطن من الغزاة.
3ـ حالتهم المعاشية منحطّة لا نظير لها ، نظراً لصحراوية أرضهم ، وقلّة مواردها المائية مما جعلهم يشربون المياه الآسنة التي لا تصلح أن تكون صالحة لشرب البهائم فضلاً عن الإنسان ، سيّما وهي من مياه الأمطار التي تجتمع في بُقع واطئة من الصّحراء ، مكوّنة واحاتٍ وقتية يسرع إليها الناس لسدّ حاجاتهم وحاجات مواشيهم ، وقد تتعرض دوماً لخوض الإبل وبرازها وبولها وهذا ما وصفته الزّهراء ( بالطرق ).
ثم تعرّج ـ عليها السلام ـ لتتحدث عن غذاء القوم في جاهليّتهم ، فتصفه وصفاً دقيقاً بقولها : « وتقتاتون القدّ » إذ كان العرب يقتاتون جلد المعزى لسوء حالتهم المعاشية.
وحين تنزل أُمّة إلى المستوى الذي يجعلها تتناول جلد الماعز غداءً تسدُّ به رمقها ، فإنّها قد بلغت ـ على هذا الاساس ـ مستوىً اقتصاديا لا مثيل له في قاموس الإنحطاط.
والزهراء ( عليها السلام ) حين تصوّر لنا حياة العرب ، فإنّما تصوّرها بصفة جماعيّة لا اجتماعيّة ، لأنّ المجتمع العربي الجاهليّ لا يخلو من فئة يعدُّ أفرادها بالاصابع قد بلغت مستوىً من الثّراء ، وهؤلاء يمكن العثور عليهم ـ فقط ـ في مكّة المكرّمة ، أما سائر أقاليم الجزيرة العربية فلا تخرج ـ على الإطلاق ـ عن الإطار الذي رسمته الزهراء آنفاً ، فالحياة بصفة عامّة حياة طرقِ وقدًّ ، وهكذا كان حديث الزهراء ( عليها السلام ) حديثاً اجتماعيّاً بحتاً يصف الانسان العربي وظروفه في ظلال الجاهليّة الهوجاء ، وقبل حدوث العمليّة التحريريّة الكبرى التي حقّقتها رسالة الإسلام.
وحين ترسم الزهراء هذه الحقيقة التأريخية الناصعة أمام مخاطبيها والأجيال الإسلامية ، تنطلق بعد ذلك لرسم معالم الشريعة الإسلامية بكل دقة وإيجاز :