المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كتاب الامام علي من المهد الى للحد


كعبة الاحزان1
12-07-2009, 07:13 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و ورحمة الله ويركاته
اللهم صل على محمد وال محمد

من كتاب الامام علي من المهد الى اللحد


علي وليد الكعبة




أحست السيدة فاطمة بنت أسد بوجع الولادة وهي في الشهر التاسع من الحمل، وأقبلت إلى المسجد الحرام وطافت حول الكعبة، ثم

وقفت للدعاء والتضرع إلى الله تعالى ليسهل عليها أمر الولادة، قائلة: يا رب إني مؤمنة بك وبكل كتاب أنزلته، وبكل رسول أرسلته...
ومصدقة بكلامك وكلام جدي إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وقد بنى بيتك العتيق، وأسألك بحق أنبياءك المرسلين، وملائكتك

المقربين وبحق هذا الجنين الذي في أحشائي..

إلا يسرت عليّ ولادتي.
انتهى دعاء السيدة، وانشق جدار الكعبة من الجانب المسمى (بالمستجار) ودخلت السيدة فاطمة بنت أسد إلى جوف الكعبة،

وارتأب الصدع، وعادت الفتحة والتزقت وولدت السيدة ابنها علياً هناك.

من المعلوم: أن للكعبة باباً يمكن منه الدخول والخروج، ولكن الباب لم ينفتح، بل انشق الجدار ليكون أبلغ وأوضح وأدل على

خرق العادة، وحتى لا يمكن إسناد الأمر إلى الصدفة.
والغريب: أن الأثر لا يزال موجوداً على جدار الكعبة حتى اليوم بالرغم من تجدد بناء الكعبة في خلال هذه القرون، وقد ملأوا أثر

الانشقاق بالفضة والأثر يرى بكل وضوح على الجدار المسمى بالمستجار، والعدد الكثير من الحجاج يلتصقون بهذا الجدار ويتضرعون إلى الله تعالى في حوائجهم.
روى الشيخ الطوسي عليه الرحمة ـ في أماليه ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام): كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب

جالسين ما بين فريق بني هاشم إلى فريق بني عبد العزى إزاء بيت الله الحرام، إذ أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت حاملة

بأمير المؤمنين (عليه السلام) لتسعة أشهر، وكان يوم التمام، فوقفت إزاء البيت الحرام، وقد أخذها الطلق، ورمت بطرفها نحو

السماء وقالت...
إلى آخر كلامها الذي تقدم.

ووصل الخبر إلى أبي طالب، فأقبل هو وجماعة وحاولوا ليفتحوا باب الكعبة حتى تصل النساء إلى فاطمة ليساعدنها على أمر

الولادة، ولكنهم لم يستطيعوا فتح الباب، فعلموا أن هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى.

وحدثت السيدة فاطمة بما جرى عليها في الكعبة، قالت: فجلست على الرخامة الحمراء ساعة، وإذا أنا قد وضعت ولدي علي بن

أبي طالب ولم أجد وجعاً ولا ألماً.
وبقيت السيدة في الكعبة ثلاثة أيام، وانتشر الخبر في مكة، وجعل الناس يتحدثون به حتى النساء، وازدحم الناس في المسجد

الحرام، ليشاهدوا مكان الحادثة، حتى كان اليوم الثالث، وإذا بفاطمة قد خرجت ـ من الموضع الذي كان قد انشق لدخولها ـ وعلى

يدها صبي كأنه فلقة قمر وأسرعت الجماهير المتجمهرة إليها فقالت: معاشر الناس، إن الله عز وجل اختارني من خلقه وفضلني

على المختارات ممن مضى قبلي، وقد اختار الله آسية بنت مزاحم فإنها عبدت الله سراً في موضع لا يحب أن يعبد الله فيه إلا

اضطراراً، ومريم بنت عمران، حيث هانت ويسرت ولادة عيسى فهزت الجذع اليابس من النخلة في فلاة من الأرض حتى تساقط

عليها رطباً جنياً وإن الله تعالى اختارني (فضلني) عليها وعلى كل من مضى قبلي من نساء العالمين لأني ولدت في بيته العتيق،

وبقيت فيه ثلاثة أيام آكل من ثمار الجنة وأرزاقها...الخ.
وبعد هذا كله لم يبق مجال للشك في هذه الحادثة والاستبعاد من قدرة الله تعالى وإرادته، وما المانع أن يختار الله لمولد وليه

أشرف بقاع الأرض حتى يكون مولده في ذلك المكان من مزاياه التي تفرد بها عن الخلق أجمعين؟؟ وما المانع أن يمنح الله عباده

المقربين هذه العطايا والمنح كي تكون لهم دليلاً على كرامتهم عند الله.
فقد ذكر الشيخ المفيد (ره) المتوفى سنة 431هـ في الإرشاد مولد الإمام في البيت الحرام، وكذلك من جاء بعده كالشيخ الطوسي

والنسابة علي بن أبي الغنائم والشهيد في مزاره والسيد ابن طاووس في المصباح والعلامة الحلي المتوفى سنة 736هـ في كتابه

كشف الحق وكشف اليقين.
وتطرق السيد الحميري في نظمه إلى هذه المفخرة وهو من شعراء القرن الثاني وهو قوله:



ولدته في حرم الإله وأمنــــه والبيت حيث فناؤه والمسجـد
بيضاء طاهرة الثـياب كريمـة طابــت وطاب وليدها والمولد
ما لف في خرق القوابل مثله إلا ابن آمنة النبي محمــــــــد
وكذلك الشاعر محمد بن منصور السرخسي، وهو من شعراء القرن السادس أشار إلى هذه الفضيلة بقوله:

ولدته منجبة وكان ولادهـــــا في جوف كعبة أفضل الأكنان
ولم ينفر أساطين الشيعة وعلماؤهم بذكر هذه المأثرة، بل شاركهم الكثير من علماء السنة، كالمسعودي في مروج الذهب وإثبات

الوصية وعبد الحميد خان الدهلوي، في سيرة الخلفاء وغيرهما من المحدثين.
وأشار عبد الباقي العمري وعبد المسيح الأنطاكي أيضاً إلى هذه الحادثة وأنها من الأمور المتفق عليها، وأنها من خصائص الإمام

ولم يشاركه أحد قبله ولا بعده في هذه المكرمة، حتى قال محمود الآلوسي في شرح قصيدة عبد الباقي العمري ما هذا نصه: (وفي

كون الأمير كرم الله وجهه ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا وذكر في كتب الفريقين السنة والشيعة...

ولم يشتهر وضع غيره كرم الله وجهه كما اشتهر وضعه، وأحرى بإمام الأئمة أن يكون وضعه فيما هو قبلة للمؤمنين، سبحان من

يضع الأشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين).
استقبل سيدنا أبو طالب السيدة فاطمة بنت أسد مهنئاً، وأخذ أبو طالب وليده الحبيب وضمه إلى صدره ثم رده إلى أمه، وأقبل

رسول الله وذلك قبل أن يبعث فلما رآه علي جعل يهش ويضحك كأنه ابن سنة، من حيث المشاعر والإدراك فأخذه النبي (صلّى الله
عليه وآله)
وقبله وحمد الله على ظهور هذا المولود الذي كان يعلم أنه سيكون له أحسن وزير وخير أخ وأول مؤمن به، وتتحقق به آمال رسول الله وأمانيه بنشر دينه الذي سيبعث به فسلم علي على رسول الله ثم قرأ هذه الآيات:
(بسم الله الرحمن الرحيم.قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون)
إلى آخر الآيات، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أفلحوا بك.

وقرأ تمام الآيات إلى قوله (أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون).

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أنت والله أميرهم تميرهم من علومك فيمتارون، وأنت والله دليلهم وبك يهتدون.

وأذن أبو طالب في الناس أذاناً جامعاً وقال: هلموا إلى وليمة ابني علي.

قال: ونحر ثلاث مائة من الإبل وألف رأس من البقر والغنم واتخذوا وليمة عظيمة وقال: معاشر الناس، ألا من أراد من طعام علي

ولدي فهلموا وطوفوا بالبيت سبعاً سبعاً، وادخلوا وسلموا على ولدي علي فإن الله شرفه.
وهنا سؤالان: الأول كيف تكلم علي وهو ابن ثلاثة أيام، والسؤال الثاني كيف قرأ آيات القرآن والقرآن بعد لم ينزل على النبي؟

أما الجواب عن السؤال الأول: إن القرآن الكريم يصرح بتكلم عيسى لما حملته أمه مريم وجاءت به إلى قومها، فسألها قومها عن

عيسى (فأشارت إليه) أي سلوا الطفل فإنه يخبركم عن الحقيقة.
قال اليهود: كيف نكلم من كان في المهد صبياً؟ قال (عيسى): (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً) فإذا أمكن أن يتكلم عيسى

في المهد صبياً فما المانع أن يتكلم علي وهو طفل فإن كان عيسى نبياً فعلي خليفة نبي ووصيه وليس ذلك على الله بعزيز، وليس

هذا بمستحيل أمام قدرة الله تعالى فإن الله على كل شيء قدير.

والجواب عن السؤال الثاني: أن القرآن الحكيم يقول: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) مع العلم أن القرآن نزل على النبي

(صلّى الله عليه وآله) في خلال ثلاث وعشرين سنة، من يوم مبعثه إلى أيام قبل وفاته، فما المقصود من هذه الآية المباركة التي تصرح بنزول القرآن في ليلة القدر؟
هناك أحاديث متواترة عن أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية مفادها: أن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة

ومن السماء الدنيا نزل تدريجياً ومن هنا يستفاد أن القرآن كان موجوداً في السماء قبل نبوة محمد (صلّى الله عليه وآله).

فالطفل الذي اختار الله له الكعبة مولداً وأنطق لسانه يوم ولادته لا مانع عند العقل أن يلهمه الله شيئاً من كتابه المخلوق الموجود

في السماء.
وكانت ولادته يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر رجب، بعد مضي ثلاثين سنة من عام الفيل.

وقيل: أقل من ذلك، والله العالم.

وفي ختام بحث الليلة صلو على محمد وآل محمد

وانتظرو البحث الثاني في الليلة القادمة ان شاء الله

اللهم صلي على محمد وآل محمد

نكمل مع
علي اول المسلمين

كعبة الاحزان1
12-07-2009, 07:38 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و ورحمة الله ويركاته
اللهم صل على محمد وال محمد

علي اول المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على محمد وآله خير البرية.

كلامنا الليلة: حول التربية الإسلامية التي ترباها علي (عليه السلام) خلال السنوات الطوال التي قضاها مع

النبي (صلّى الله عليه وآله) منذ نعومة أظفاره حتى بلغ من العمر ثلاثاً وثلاثين سنة، وهي المدة التي عاش

فيها مع الرسول، ولا أملك بياناً كافياً لوصف تلك التربية المدهشة، وتأثيرها في نفس علي (عليه السلام)،

والأفضل أن نستمع إلى كلام علي (عليه السلام) في هذا الموضوع، فإنه يشرح لنا مدى اختصاصه

والتصاقه بالنبي (صلّى الله عليه وآله) من صغر سنه، يذكر (عليه السلام) ذلك في خطبته الجليلة المعروفة

بالقاصعة.

قال (عليه السلام): (أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر.


وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في

حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرقه.

وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به (صلّى الله

عليه وآله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم،

ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء

به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري.

ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور

الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.
ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلّى الله عليه وآله) فقلت يا رسول الله: ما هذه الرنة؟

فقال: إنه الشيطان أيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي. ولكنك وزير وإنك

لعلى خير.
فقد روى العلامة الحلي عليه الرحمة في كشف اليقين وغيره...: وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ

لفاطمة بنت أسد ـ : اجعلي مهده بقرب فراشي، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يلي علياً أكثر

تربيته، وكان يطهر علياً في وقت غسله، ويوجره اللبن (يجعله في فمه) عند شربه، ويحرك مهده عند

نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره، ويقول: هذا أخي ووليي، وصفيي، وذخري وكهفي وظهري،

ووصيي، وزوج كريمتي، وأميني على وصيتي وخليفتي، وكان يحمله دائماً ويطوف به في جبال مكة

وشعابها وأوديتها.

وذكر الثعلبي في تفسيره عن مجاهد قال: كان من نعم الله على علي بن أبي طالب (عليه السلام) وما صنع

الله له وزاده من الخير أن قريشاً أصابتهم أزمة (قحط) شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول

الله (صلّى الله عليه وآله) ـ للعباس عمه وكان أيسر بني هاشم ـ : يا عباس أخوك أبو طالب كثير العيال،

وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله، آخذ أنا من بنيه رجلاً، وتأخذ

أنت من بنيه رجلاً، فنكفيهما عنه من عياله.

قال العباس: نعم فانطلقا، حتى أتيا أبا طالب فقالا: نريد أن نخفف عنك عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم

فيه، فقال أبو طالب: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما.

فأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) علياً فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرَ فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول

الله (صلّى الله عليه وآله) حتى بعثه الله نبياً، واتبعه علي فآمن به وصدقه.. الخ.

وأخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً، فانتخبه لنفسه واصطفاه لمهم أمره، وعول عليه في سره

وجهره، وهو مسارع لمرضاته موفق للسداد في جميع حالاته، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في

ابتداء طروق الوحي إليه، كلما هتف به هاتف أو سمع من حوله رجفة راجف، أو رأى رؤياً أو سمع كلاماً

يخبر بذلك خديجة وعلياً (عليهما السلام) ويستسرهما هذه الحالة فكانت خديجة نثبته وتصبره، وكان علي

(عليه السلام) يهنئه ويبشره ويقول له: والله يا ابن عم ما كذب عبد المطلب فيك، ولقد صدقت الكهان فيما

نسبته إليك، ولم يزل كذلك إلى أن أمر (صلّى الله عليه وآله) بالتبليغ.

فكان أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الذكور أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)

وعمره يومئذ عشر سنين، وكانت السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) تشاهد النبي يعطف ويحنو على

علي (عليه السلام) ويتولى رعايته منذ نعومة أظفاره، فكانت السيدة خديجة تستزيده وتزينه وتحليه

وتلبسه وترسله مع جواريها، ويحمله خدمها.

وقد أجمع علماء النفس والتربية واتفقت كلمتهم على: أن جميع نفسيات الإنسان وأخلاقه وصفاته إنما هي

انطباعات التربية التي تركزت في نفسه منذ صغره، بحيث يمكن لنا أن نعرف مصير الطفل ومستقبله من

منهاج التربية التي قام بها الوالدان والمربي تجاه الطفل في صباه.

فالحقارة والعقد النفسية والدناءة والخمول وما شاكلها من الصفات التي تظهر في الناس إنما هي من ولائد

التربية الفاسدة في باكورة حياتهم.

وكذلك شرافة النفس وعلو الهمة، وقوة الروح وما شابهها إنما هي من نتائج التربية الصحيحة في أيام

الصبا.

وفي المناقب: عن أبي رافع أن النبي (صلّى الله عليه وآله)...

قال لعمه أبي طالب: إني أحب أن تدفع إلي بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني، وأشكر لك بلاءك عندي،

فقال أبو طالب: خذ أيهم شئت.

فأخذ علياً (عليه السلام) فاستقى عروقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته من ثدي الرسالة، وتهدلت

أغصانه عن نبعة الإمامة، ونشأ في دار الوحي، وربي في بيت التنزيل، ولم يفارق النبي (صلّى الله عليه

وآله) في حال حياته إلى حال وفاته، لا يقاس بسائر الناس، إذ كان (عليه السلام) في أكرم أرومة، وأطيب

مغرس، والعرق الصالح ينمي والشهاب الثاقب يسري...

ولم يكن الرسول ليتولى تأديبه، ويتضمن حضانته وحسن تربيته إلا على ضربين: إما على التفرس فيه، أو

بوحي من الله تعالى، فإن كان بالتفرس فلا تخطى فراسته، ولا يخيب ظنه، وإن كان بالوحي فلا منزلة أعلى

ولا حال أدل على الفضيلة والإمامة.
بناء على هذا اهتم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) غاية الاهتمام وبذل ما في وسعه في تربية علي (عليه

السلام) وتأديبه وتقوية نفسه وتوجيهه، وطبع غرائزه على أحسن ما يرام وتعليمه الفضائل والمكارم.

فأنتجت تلك التربية الإسلامية الفريدة في نفس علي (عليه السلام) أحسن الأثر، وتربى تحت ظل الرسول

أفضل تربية، واجتمعت فيه جميع المؤهلات للصعود إلى أعلى مرقاة، فاستحق أن يجعله الله نفس النبي في

آية المباهلة، وكملت فيه الكفاءة والإنسانية بجميع معنى الكلمة حتى صار أهلاً لكل منحة إلهية وعطية

ربانية وصار جديراً بالولاية والخلافة، والوصية، والوراثة، وبكل عظمة وكل تقدير من الخالق والمخلوق،

وكل إكبار وإعجاب من الرسول، وتجلت فيه الفتوة والشهامة، والاعتماد على النفس، والإحساس

بالشخصية وعظمة النفس حينما قدم لتقبل أكبر مسؤولية في العالم، واستعد للقيام بأكبر مهمة من أقل

لوازمها التضحية بكل غال ونفيس، وذلك يوم الدار أو الإنذار، وإليك الواقعة:

في أمالي الشيخ عن ابن عباس عن علي (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلّى الله عليه وآله):

(وأنذر عشيرتك الأقربين) دعاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: يا علي إن الله تعالى أمرني: أن أنذر عشيرتك الأقربين.

قال: فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أني متى أبادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت على ذلك.

فاصنع لي يا علي صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد

المطلب حتى أكلمهم، وأبلغهم ما أمرت به.


ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم أجمع وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون أو ينقصون رجلاً، فيهم أعمامه: أبو

طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا له، دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به، ولما

وضعته تناول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جذمة من اللحم فنتفها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي

الصفحة، ثم قال: خذوا باسم الله.
فأكل القوم حتى صدروا ما لهم بشيء من طعام حاجة، وما أرى إلا مواضع أيديهم، وأيم الله الذي نفس علي

بيده أن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم، ثم جئتهم بذلك العسّ فشربوا حتى رووا جميعاً،

وأيم الله أن كان الرجل الواحد منهم يشرب مثله، فلما أراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يكلمهم بدره

أبو لهب إلى الكلام فقال: لشد ما سحركم صاحبكم!! فتفرق القوم، ولم يكلمهم رسول الله (صلّى الله عليه

وآله) فقال لي في الغد: يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن

أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم لي.

قال: ففعلت، ثم جمعتهم، فدعاني بالطعام، فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، وأكلوا حتى صدروا ما لهم به

من حاجة ثم قال: اسقهم.

فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثم تكلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا بني

عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا

والآخرة وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على أمري فيكون أخي،

ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي من بعدي؟


قال: فأمسك القوم، وأحجموا (سكتوا) عنها جميعاً، قال: فقمت وإني لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً،

وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً، فقلت: أنا ـ يا نبي الله ـ أكون وزيرك على ما بعثك الله به...

قال: فأخذ بيدي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيعه.

وفي رواية فقال: ليقومن قائمكم أو ليكونن من غيركم ثم لتندمن، ثم أعاد الكلام ثلاث مرات فقام علي فبايعه

ثم قال له (صلّى الله عليه وآله): ادن مني، فدنا منه ففتح فاه، ومج من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه فقال

أبو لهب: بئس ما حبوت به ابن عمك إن أجابك فملأت وجهه وفاهه بزاقاً! فقال النبي (صلّى الله عليه

وآله): ملأته حكماً وعلماً وفهماً.

وللمأمون العباسي مناظرة لطيفة ظريفة قيمة مع الفقهاء، نقتطف منها محل الحاجة: المأمون: يا إسحاق

أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله رسوله؟ إسحاق: الإخلاص بالشهادة.

المأمون: أليس السبق إلى الإسلام؟

إسحاق: نعم.

المأمون: اقرأ ذلك في كتاب الله يقول: (والسابقون السابقون أولئك المقربون)إنما عنى من سبق إلى

الإسلام، فهل علمت أحداً سبق علياً إلى الإسلام؟

إسحاق: يا أمير المؤمنين إن علياً أسلم وهو حديث السن، لا يجوز عليه الحكم، وأبو بكر أسلم وهو

مستكمل يجوز عليه الحكم.

المأمون: أخبرني أيهما أسلم قبل؟

ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال.

إسحاق: علي أسلم قبل أبي بكر على هذه الشريطة.

المأمون: فأخبرني عن إسلام علي حين أسلم؟ لا يخلو من أن يكون رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دعاه

إلى الإسلام أو يكون إلهاماً من الله؟؟ أطرق إسحاق!!

المأمون: يا إسحاق لا تقل: إلهاماً.

فتقدمه على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأن رسول الله لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبرائيل عن الله

تعالى.
إسحاق: أجل بل دعاه رسول الله إلى الإسلام.

المأمون: يا إسحاق فهل يخلو رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه

بأمر الله أو تكلف ذلك من نفسه؟؟ (أطرق إسحاق)!!.

المأمون: يا إسحاق لا تنسب رسول الله إلى تكلف، فإن الله قال: (وما أنا من المتكلفين).

إسحاق: أجل، يا أمير المؤمنين بل دعاه بأمر الله.

المأمون: فهل من صفة الجبار (جل ذكره) أن يكلف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم؟

إسحاق: أعوذ بالله.

المأمون: أفتراه في قياس قولك ـ يا إسحاق ـ أن علياً أسلم صبياً لا يجوز عليه الحكم قد تكلف رسول الله

(صلّى الله عليه وآله) من دعاء الصبيان ما لا يطيقون، فهل يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة فلا يجب

عليهم في ارتدادهم شيء، ولا يجوز عليهم حكم الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟؟ أترى هذا جائزاً عندك أن

تنسبه إلى رسول الله؟؟

إسحاق: أعوذ بالله... الخ.

وليس هذا بأول خطوة كبيرة خطاها (عليه السلام) إلى مراقي الصعود ولا بأول موقف مشرف وقف فيه

للحق، فقد دعاه الرسول قبل ذلك إلى الاعتراف له بالنبوة والتصديق له بالرسالة، وذلك يوم بعثه الله تعالى

في غار حراء وانحدر متحملاً أعباء الرسالة وقصد بيت خديجة وفتحت له الباب وقالت: ما هذا النور؟

فأجابها: إنه نور النبوة، اشهدي يا خديجة بأن لا إله إلا الله وإني رسول الله.

فشهدت بذلك فكانت أول امرأة آمنت، ثم دعا علياً (عليه السلام) ليشهد له بذلك فاعترف له علي فكان أول

من أسلم من الرجال.
ويمتاز إسلام علي (عليه السلام) عن بقية المسلمين في ذلك العهد فإن الذين أسلموا على يد النبي (صلّى

الله عليه وآله) كان جلهم غير موحدين، بل يهوداً ونصارى ومشركين، وسبق الكفر أو الشرك إسلامهم،

ولكن علياً (عليه السلام) لم تتغير فطرته التي فطره الله عليها، ولم يدنس ساحته شرك ولا كفر، بل كان

موحداً وبقي على التوحيد، وازداد إيماناً بالله ويقيناً به على أثر تلك العلوم والمعارف الإلهية التي كان

الرسول (صلّى الله عليه وآله) يزقه إياها زقاً، ولما بعث النبي بالنبوة كان علي أول من صدقه وآمن به

وقام بما يتطلب ذلك التصديق والإيمان.

ولا بأس أن نذكر الشيء اليسير من الأحاديث التي تصرح بهذه الفضيلة الفريدة لعلي (عليه السلام): قال

رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أوّلكم وروداً على الحوض أوّلكم إسلاماً علي بن أبي طالب.

ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه وابن أبي الحديد في شرحه.

وأخذ النبي بيد علي فقال: إن هذا أول من آمن بي، وهذا أول من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصديق

الأكبر.

وقال أيضاً: لقد صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين لأنا كنا نصلي وليس معنا أحد يصلي غيرنا.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا عبد الله وأخو رسول الله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا

كاذب مفترٍ، ولقد صليت مع رسول الله قبل الناس بسبع سنين، وأنا أول من صلى معه.

وقال أيضاً: أنا أول رجل أسلم مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وقال أيضاً: أنا أول من صلى مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وقال أيضاً: أسلمت قبل أن يسلم الناس بسبع سنين.

وقال أيضاً: اللهم إني لا أعرف عبداً من هذه الأمة عبَدَك قبلي غير نبيك.

(قاله ثلاث مرات) ثم قال: لقد صليت قبل أن يصلي الناس.

وقال أيضاً: بُعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم الاثنين وأسلمت يوم الثلاثاء وقال في أبيات له:


سبقتكم إلى الإسلام طراً غلاماً ما بلغت أوان حلمي
وله أيضاً:

أنا أخو المصطفى لا شك في نسبي بـــــــه ربيت وسبطاه هما ولدي
صدقته وجــــــــميع الناس في بُهَم من الضـــــلالة والإشراك والنكد


قال جابر: سمعت علياً ينشد بهذا ورسول الله يسمع، فتبسم رسول الله وقال: صدقت يا علي.

وكان هذا الأمر من الأمور الثابتة عند الصحابة والتابعين وقد روي ذلك نظماً ونثراً عن جماعة منهم

يتجاوز عددهم خمسين رجلاً، تجد ذلك بالتفصيل في الجزء الثالث من الغدير لشيخنا الأميني (رحمه الله).

ولشيخنا الأميني كلام لطيف قيّم في هذا الموضوع (وكل كلامه لطيف) قال: وأما نحن فلا نقول: إنه (علياً)

أول من أسلم بالمعنى الذي يحاوله ابن كثير وقومه، لأن البدأة به (الإسلام) تستدعي سبقاً من الكفر، ومتى

كفر أمير المؤمنين حتى يسلم؟ ومتى أشرك حتى يؤمن؟ وقد انعقدت نطفته على الحنيفية البيضاء،

واحتضنه حجر الرسالة، وغذته يد النبوة، وهذبه الخلق النبوي العظيم، فلم يزل مقتصاً أثر الرسول قبل أن

يصدع بالدين الحنيف وبعده، فلم يكن له هوى غير هواه، ولا نزعة غير نزعته (إلى أن قال) بل نحن نقول:

إن المراد من إسلامه وإيمانه وأوليته فيهما وسبقه إلى النبي في الإسلام هو المعنى المراد من قوله تعالى ـ

عن إبراهيم الخليل (عليه السلام) ـ : (وأنا أول المسلمين).

وفيما قال سبحانه عنه: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) وفيما قال سبحانه عن موسى (عليه

السلام): (وأنا أول المؤمنين) وفيما قال تعالى عن نبيه الأعظم: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) وفيما

قال: (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) وفي قوله: (وأُمرت أن أُسلم لرب العالمين).


وقال ابن أبي الحديد:
وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى وآمن بالله، وعبده، وكل من في الأرض يعبد الحجر ويجحد

الخالق، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير: محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).


ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه عليه الصلاة والسلام أول الناس اتباعاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)

وإيماناً به، ولم يخالف في ذلك إلا الأقلون.

ومن وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق له ذلك، وعلمه واضحاً وإليه ذهب الواقدي وابن جرير الطبري،

وهو القول الذي رجحه ونصره صاحب كتاب الاستيعاب.

ساريم
12-07-2009, 09:26 PM
يسلموا ويعطيك العافيه

السوسن
12-07-2009, 09:49 PM
جزاك الله خيرا كعبه الاحزان

كعبة الاحزان1
12-09-2009, 03:00 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
أبو طالب حامي الرسول
قد ذكرنا في أول كلامنا الليلة أن التربية الصحيحة إنما تتسنى للطفل عن طريق المربي والوالدين والبيت

الذي يفتح الطفل فيه عيناه، فقد كان علي (عليه السلام) يتلقى دروس التوحيد من الرسول الأعظم (صلّى

الله عليه وآله) من أيام صباه ويتعلم منه العلوم الإلهية طيلة أيام كونه طفلاً ويافعاً وشاباً وخليفة، وكان

يجد كل التشجيع من والده أبي طالب (عليه السلام) الذي كفل النبي من يوم وفاة عبد المطلب، ولم يبلغ

النبي يومذاك من العمر ثمان سنين وأخذه إلى بيته وضمه إلى أهله وولده، وكان هو وزوجته السيدة فاطمة

بنت أسد يبذلان كل ما في وسعهما في خدمة النبي والترفيه عنه حتى أنهما كانا يفضلانه على أولادهما في

المطعم والملبس والعناية والخدمة، وقام أبو طالب بما قام من أنواع العطف والحنان والرعاية والاهتمام

بشأن النبي والإشادة بمواهبه في السفر والحضر.

ولأبي طالب (عليه السلام) الحظ الأوفر في القيام بتزويج النبي من السيدة خديجة والقضاء على المشاغبات

والمنافسات التي كادت أن تحول دون ذلك الزواج الميمون.

ومواقف أبي طالب في سبيل التحفظ على النبي والدفاع عنه والحماية له من بدء بعثته إلى آخر حياة أبي

طالب، مشكورة مذكورة في تاريخ المسلمين، وإسلام أبي طالب (عليه السلام) وإيمانه بالنبي مما لا شك

فيه عند كل مسلم منصف، وهذا بعض تلك البحوث الشاهدة لما نحن فيه الآن: قال ابن الأثير: إن أبا طالب

رأى النبي (صلّى الله عليه وآله) وعلياً يصليان وعلي على يمينه فقال لجعفر رضي الله عنه: صل جناح ابن

عمك وصل عن يساره.

وفي رواية: فقام جعفر إلى جنب علي، فأحس النبي، فتقدمهما، فأقبلوا على أمرهم حتى فرغوا، فانصرف

أبو طالب مسروراً، وأنشأ يقول:


إن علياً وجعفـــــراً ثقتـــــي عنــد ملم الزمان والنُـوَب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما أخي لأمي من بينهم وأبي
والله لا أخـــذل النبـــــي ولا يخذله من بنيَّ ذو حســب


وكان أبو طالب إذا رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحياناً يبكي ويقول: إذا رأيته ذكرت أخي، وكان

عبد الله أخاه لأبويه، وكان شديد الحب والحنو عليه، وكذلك كان عبد المطلب شديد الحب له، وكان أبو

طالب كثيراً ما يخاف على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) البيات إذا عرف مضجعه، فكان يقيمه ليلاً من

منامه ويضجع ابنه علياً مكانه، فقال له علي ليلة: يا أبت إني مقتول.


فقال له:

اصبرنْ يا بني فالصبر أحـجى كل حي مصـيره لشعــــوب
قـــد بذلناك والبلاءُ شـــديــــد لفداء الحبيب وابـن الحبيب
لفــداء الأغــر ذي الحسب الثا قـب والباع والكريم النجيب
فأجاب علي بقوله:

أتأمرني بالصبر في نصر أحمـــد ووالله مــا قلت الذي قلت جازعا
ولكنني أحببت أن تر نصرتــــــي وتعــلم أنـــــــي لم أزل لك طائعا
سأسعى لوجه الله في نصر أحمد نبي الهدى المحمود طفلاً ويافعا


وقال القرطبي في تفسيره: روى أهل السير قال: كان النبي قد خرج إلى الكعبة يوماً وأراد أن يصلي، فلما

دخل في الصلاة قال أبو جهل ـ لعنه الله ـ : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعري

فأخذ فرثاً ودماً فلطخ به وجه النبي (صلّى الله عليه وآله) فانفتل النبي من صلاته، ثم أتى أبا طالب عمه

فقال: يا عم! ألا ترى إلى ما فعل بي؟ فقال أبو طالب: من فعل هذا بك؟ فقال النبي (صلّى الله عليه وآله):

عبد الله بن الزبعري.

فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم، فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم

ينهضون، فقال أبو طالب: والله لئن قام رجل لجللته بسيفي.

فقعدوا حتى دنا إليهم، فقال: يا بني من الفاعل بك هذا؟ فقال: عبد الله بن الزبعري، فأخذ أبو طالب فرثاً ودماً

فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم، وأساء لهم القول.

وهناك أحاديث كثيرة متواترة حول إسلام أبي طالب وإيمانه، بل وكتب طائفة من العلماء والفضلاء مؤلفات

واسعة قيمة حول إيمان أبي طالب أمثال كتاب أسنى المطالب، وأبو طالب مؤمن قريش، وكتاب: الحجة على

الذاهب إلى تكفير أبي طالب، وفي المجلد السابع من الغدير لشيخنا الأميني ما يروي الغليل.

ولسيدنا أبي طالب (عليه السلام) قصائد وأبيات في مدح النبي (صلّى الله عليه وآله) والاعتراف برسالته


والتصديق بنبوته، وذكر الشيخ الأميني في المجلد السابع من الغدير عن بعض المؤرخين: أن الأبيات التي

قالها أبو طالب في مدح النبي (صلّى الله عليه وآله) قد بلغت ثلاثة آلاف ونحن نقتطف أبياتاً تصرح بإيمان

أبي طالب وتفانيه في نصرة النبي، فقد كتب أبو طالب أبياتاً إلى النجاشي ملك الحبشة وهي :


ليعلم خيــــار الناس أن محمــــداً وزير كموسى والمسيح بــن مريــم
أتانا بهــــدي مثـــل ما أتنا بــــه فكــل بأمـــر الله يهــــدي ويعصــم
وقال أيضاً:

ألا أبلغا عنــي علــى ذات بينــها لوَّيا وخُصّا مــــن لويِ بنـــي كعب
ألم تعلمـــوا أنا وجـــدنا محمــداً رسولاً كموسى خُطّ فـي أول الكتب
وقال أيضاً:

يرجون أن نسخـــي بقتل محمـــد ولم تختضب سمر العوالي من الدم
كذبتم وبيـــت الله حتــــى تفلقــوا جماجــم تلقــــى بالحطيــــم وزمزم
وقال يخاطب النبي:

والله لن يصلـــــوا إليك بجمعهـم حتى أوسّـــــد فــــي التراب دفينـــا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بـــذاك وقُــرّ منـــك عيونــا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحـــي ولقـــد دعـــوت وكنــت ثَــم أمينـــا
ولقـــد علمت بأن ديــــن محمــد من خيـــر أديـــان البريـــــة دينــــا

وقال يمدح النبي:

لقــــد أكرم الله النبــــي محمــــــداً فأكــــــــــــرم خلــق الله في الناس أحمـد

وشــق لــه مـــــن اسمـــه ليجلــه فــذو العرش محمود وهـذا محمــد
وقال أيضاً:

كذبتم وبيــت الله نبـــزي محمــــداً ولمـــا نطاعــــن دونـــه ونناضـــل
ونسلمـــه حتـــى نصـــرّع حولـــه ونــذهــل عـــن أبنائنــا والحلائــــل
وأبيض يستسقـى الغمــام بوجهــه ثمـــال اليتامــى عصمـــة للأرامـــل
يلوذ بـــه الهُلاك مـــن آل هاشــــم فهم عنــــده فـــي رحمة وفواضــل
ألــم تعلمـــوا أن ابننـــا لا مكــــذب لــــــدينا ولا نعبــأ بقـــول الأباطـــل
فأيـــــــده رب العبـــــاد بنصــــــره وأظـــهر دينــاً حقــه غـيــر باطـــل

وقال أيضاً:

أوصــي بنصــر نبــي الخير أرـبعة ابني عـلياً وشيـــخ القـــوم عباسا
وحمـــزة الأســـد الحامــي حقيقتـه وجعفــراً أن تذودوا دونــه الناسا
كونــوا فــداءً لكم أمـي وما ولـدت فـي نصر أحمد دون الناس أتراسا
وقال أيضاً:

إن ابـــن آمنــة النبــــي محمـــــــداً عنــدي يفــــوق منــــازل الأولاد
راعيت فـيـــه قـرابـة موصـــولــــة وحفـظـت فـيــه وصيــة الأجــداد

وغير ذلك من قصائده وأبياته المفصلة المذكورة في ديوانه وسجلتها كتب التراجم والتاريخ.

أما تكفي هذه الأحاديث وهذه القصائد أن تكون وثيقة لإيمان أبي طالب وإسلامه، وهل الإسلام غير هذا؟ ولو

كان جزء من هذه الآثار والمآثر لأبي قحافة والخطاب أو عفان لكانوا أول المسلمين، ولكن أبا طالب (عليه

السلام) بالرغم من تلك المواقف والمواطن التي وقف بها للدفاع عن النبي والمحافظة على حياته في الشعب

وقبله وبعده، وهذه الاعترافات منه بنبوة محمد ورسالته، لا تكفي للدلالة على إسلامه فيقولون: مات أبو

طالب مشركاً كافراً.

فليكن كل هذا، فإن هذه الغارات التي تشن على كفيل رسول الله وناصره والمحامي عنه إنما هي لأجل ولده

علي (عليه السلام) فإن القوم لم يرضوا أن تكون ساحة نسب علي (عليه السلام) منزهة عن كفر الجاهلية،

ولم تطب نفوسهم أن تكون هذه المفاخر لعلي (عليه السلام) وسيعلمون غداً يوم يساقون إلى الحساب عما

كتبت أيديهم.



وفي ختام هذه الليلة صلوا على محمد وآل محمد

وسوف يكون حديثنا في الليلة القادمة عن المبيت

اي:

مبيت الإمام علي عليه السلام في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم

يتبع

كعبة الاحزان1
12-15-2009, 06:26 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
علي عليه السلام ليلة المبيت
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وسلام على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين.

قال الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد).

حديثنا ـ الليلة ـ حول ما قام به علي (عليه لسلام) من التضحية والتفادي في سبيل رسول الله والدفاع عنه، ولقد ذكرنا في

الليلة الماضية شيئاً يسيراً مما قام به أبوه سيدنا أبو طالب (عليه السلام) في الدفاع عن النبي (صلّى الله عليه وآله)

والحماية له.
ومن هذه الليلة نبدأ بشرح ما قام به علي (عليه السلام) من توطين النفس لكل بلاء ومكروه في سبيل الإسلام، ولقد صدق

من قال:

ولولا أبو طالب وابنـــه لما مثل الدين شخصاً وقاما
فذاك بمكة آوى وحامى وهـــذا بيثرب جس الحماما
فـللـــه ذا فاتحاً للهـــدى ولله ذا للمعــالــــي ختـــاما

فقد خلق الله تعالى علياً (عليه السلام) ليكون أحسن وزير وأشرف نصير

للرسول وأوفى مدافع وأقوى مجاهد في سبيل الإسلام، ولقد تحقق الهدف الذي خلق علي (عليه السلام) من أجله، وقد ذكرنا

نهضته المباركة يوم الإنذار وإجابته طلب الرسول وتلبيته لندائه، وكانت تلك النهضة فاتحة قيامه وجهاده، إذ تجلت فيها

شخصية علي (عليه السلام) وعبقريته، وظهر مدى اعتماده على الله تعالى وعلى نفسه المتشبعة بالإيمان وقلبه المطمئن

بذكر الله.

واستمر الأمر من ذلك اليوم فكأنه فترة التدريب أو الامتحان التمهيدي الذي لا بد منه لكل مصلح منقذ أن يجس نبض

المجتمع ليكون على بصيرة أكثر فينضج فكره بالتجارب لاتخاذ التدابير اللازمة لمشروعه الذي ينوي القيام به والسير على

المخطط الذي جعله برنامجاً لحياته.

ولولا خشية الافتراء على علي (عليه السلام) لقلت: إن قلب علي (عليه السلام) هو أقوى قلب خلقه الله في صدور البشر،

وإن أعصاب علي كانت تستمد القوى من طاقة غير متناهية.

وإلا فكيف يمكن للبشر أن لا يدخل الخوف قلبه، ولا تتوتر من الأهوال أعصابه، ولا يخشى من المستقبل المبهم الغامض ولا

تستولي عليه الغرائز: غريزة حب الذات، حب الحياة، الأنانية وغيرها من الطبائع التي كثيراً ما تحول بين الإنسان وبين ما

يريد؟
ومن هذا الحديث ندرك الشجاعة التي خامرت نفس علي (عليه السلام) من صباه: عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام)

أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة ـ لما بارزه علي (عليه السلام) ـ : يا قضم؟

قال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب، وأغروا به الصبيان وكانوا إذا

خرج رسول الله يرمونه بالحجارة والتراب، وشكى ذلك إلى علي (عليه السلام)، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذا

خرجت فأخرجني معك.

فخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعه أمير المؤمنين (عليه السلام) فتعرض الصبيان لرسول الله (صلّى الله عليه

وآله) كعادتهم، فحمل عليهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم، الصبيان يرجعون

باكين إلى آبائهم ويقولون: قضمنا علي (عليه السلام) قضمنا علي.

فسمي لذلك: القضم.

ولقد حاول المشركون وكفار مكة خنق الإسلام والقضاء على حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بشتى الطرق والأساليب،

فكانت حركاتهم فاشلة، وجاءوا إلى أبي طالب وسألوه أن يمنع الرسول عن سب الآلهة!! وإفساد الشبان!! وتسفيه الأحلام!

فلم يجدوا التجاوب من أبي طالب (عليه السلام).

فجعلوا يحاربون النبي حرب الأعصاب، وجاءوا عن طريق التهديد والوعيد وإسناد السحر والجنون إليه، وقذفه بالحجارة

وتلويث ثيابه بالدم والأقذار.

وكتبوا الصحيفة القاطعة وقاطعوا بني هاشم أقسى مقاطعة، كل ذلك لا يزيد النبي إلا ثباتاً واستقامة، وخاصة لما نزلت عليه

الآية: (فاستقم كما أُمرت) واستمر الحال على هذا المنوال حتى توفيت السيدة خديجة الكبرى وبعد مدة يسيرة توفي

سيدنا أبو طالب، وكانا بمنزلة جناحين لرسول الله، وخيمت الأحزان على قلب الرسول حتى سمي تلك السنة (عام الحزن).

وعند ذلك خلا الجو للمشركين، واستضعفوا النبي لفقدان الناصر، وعزموا على اغتيال النبي وقتله، وإليكم التفصيل:

اجتمع المشركون في دار الندوة وتذاكروا حول قتل النبي (صلّى الله عليه وآله) وتقرر أخيراً أن يجتمع من كل قبيلة رجل

واحد ويهجموا على النبي (صلّى الله عليه وآله)، ويقتلوه في بيته، واجتمع أربعون رجلاً من أربعين قبيلة واجتمعوا على

باب دار النبي (صلّى الله عليه وآله) ونزل جبرائيل على النبي وأخبره بمكيدة القوم وأمره بالهجرة من مكة إلى المدينة،

فأرسل النبي إلى علي وقال له: يا علي إن الروح هبط علي يخبرني أن قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي وأنه أوحى إلي

عن ربي أن أهجر دار قومي وأن أنطلق إلى غار ثور، تحت ليلتي، وأنه أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفي

بمبيتك عليه أثري فما أنت قائل وصانع؟

فقال علي (عليه السلام): أوَ تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبي الله؟ قال: نعم، فتبسم علي (عليه السلام) ضاحكاً، وأهوى إلى

الأرض ساجداً، شكراً لما أنبأه به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من سلامته، فكان علي (عليه السلام) أول من سجد لله

شكراً، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلما رفع رأسه قال

له: امضي لما أمرت، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكون فيه كمسرتك وأقع منه بحيث مرادك، وإن

توفيقي إلا بالله، وقال النبي (صلّى الله عليه وآله): أو أن ألقي عليك شبهة مني، أو قال: شبهي، قال: أن يمنعوني نعم، قال:

فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم

من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا ابن أم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم

(عليه السلام) والذبيح إسماعيل (عليه السلام)، فصبراً صبراً، فإن رحمة الله قريب من المحسنين، ثم ضمه النبي (صلّى الله

عليه وآله) إلى صدره وبكى إليه وجداً به، وبكى علي (عليه السلام) جزعاً على فراق رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وفي رواية: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ لعلي (عليه السلام) ـ : أرضيت أن أُطلب فلا أُوجد وتوجد؟ فلعله أن يبادر

إليك الجهال فيقتلوك؟ قال: بلى يا رسول الله رضيت أن يكون روحي لروحك وقاءً ونفسي لنفسك فداء، بل رضيت أن يكون

روحي ونفسي فداء أخ لك أو قريب...

وهل أحب الحياة إلا لخدمتك، والتصرف بين أمرك ونهيك، ولمحبة أوليائك ونصرة أصفيائك ومجاهدة أعدائك.

لولا ذلك لما أحببت أن أعيش في هذه الدنيا ساعة واحدة.

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لعلي (عليه السلام) فإذا قضيت ما أمرتك من أمر فكن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وسر إلي لقدوم كتابي عليك، ولا تلبث بعده.
فانطلق النبي إلى الغار، ونام علي في مكانه ولبس برده، فجاء قريش يريدون أن يقتلوا النبي (صلّى الله عليه وآله)، فجعلوا

يرمون علياً وهم يرون أنه النبي وكان علي (عليه السلام) يتضور (يتلوى) من الألم ولا يتكلم لئلا يعرفوه، وكان القوم

يريدون الهجوم على البيت ليلاً، فيمنعهم أبو لهب ويقول لهم: يا قوم إن في هذه الدار نساء بني هاشم وبناتهم، ولا نأمن أن

تقع يد خاطئة إذا وقعت الصيحة عليهن، فيبقى ذلك علينا مسبة وعاراً إلى آخر الدهر في العرب.

فجلسوا على الباب حتى طلع الفجر، فتواثبوا إلى الدار شاهرين سيوفهم، وقصدوا نحو مضجع النبي ومعهم خالد بن الوليد،

فقال لهم أبو جهل: لا تقعوا به وهو نائم لا يشعر، ولكن ارموه بالأحجار لينتبه بها ثم اقتلوه، أيقظوه ليجد ألم القتل، ويرى

السيوف تأخذه!! فرموه بأحجار ثقال صائبة، فكشف عن رأسه، وقال: ما شأنكم؟ فعرفوه، فإذا هو علي (عليه السلام) فقال

أبو جهل: أما ترون محمداً كيف أبات هذا ونجا بنفسه لتشتغلوا به؟ وينجو محمد، لا تشتغلوا بعلي المخدوع لينجو بهلاكه

محمد، وإلا فما منعه أن يبيت في موضعه إن كان ربه يمنع عنه كما يزعم.

ثم قالوا: أين محمد؟ قال: أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم.

فأرادوا أن يضربوه فمنعهم أبو لهب، وقالوا لعلي: أنت كنت تخدعنا منذ الليلة (أي بنومك على فراش النبي خدعتنا وظننا

أنك محمد) وبقي النبي (صلّى الله عليه وآله) في الغار ثلاثة أيام وكان علي يأتيه بالطعام والشراب وفي رواية: استأجر

ثلاث رواحل للنبي ولأبي بكر ولدليلهم.

وخرج النبي بعد ذلك من الغار وتوجه نحو المدينة.

روى الثعلبي في تفسيره قال: لما أراد النبي (صلّى الله عليه وآله) الهجرة خلف علياً (عليه السلام) لقضاء ديونه، ورد

الودائع التي كانت عنده وأمر ليلة خرج إلى الغار، وقد أحاط المشركون بالدار، وقال له يا علي: اتشح ببردي الحضرمي،

ثم نم على فراشي فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله، ففعل ما أمره، فأوحى الله عز وجل إلى جبرائيل وميكائيل:

إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كل منهما الحياة، فأوحى الله

عز وجل إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب؟ آخيت بينه وبين محمد (صلّى الله عليه وآله) فبات على فراشه يفديه

بنفسه، ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا، فكان جبرائيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه،

وجبرائيل يقول: بخ بخ! من مثلك يا بن أبي طالب، يباهي الله بك ملائكته؟؟ فأنزل الله عز وجل على رسوله (صلّى الله عليه

وآله) وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله


والله رؤوف بالعباد).

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): نزل علي جبرائيل صبيحة يوم الغار، فقلت: حبيبي جبرائيل أراك فرحاً، فقال: يا محمد

وكيف لا أكون كذلك وقد قرت عيني بما أكرم الله به أخاك ووصيك وإمام أمتك علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقلت: بماذا

أكرمه الله؟ قال: باهى بعبادته البارحة ملائكته، وقال: ملائكتي! انظروا إلى حجتي في أرضي بعد نبيي وقد بذل نفسه، وعفر

خده في التراب تواضعاً لعظمتي، أشهدكم أنه إمام خلقي ومولى بريتي.

وكان علي (عليه السلام) يعتز ويفتخر بهذه الموفقية التي نالها من عند الله تعالى فقال شعراً:


وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى ومــن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
محمـــد لما خاف أن يمكـــروا بــه فوقـاه ربــــــي ذو الجلال من المكر
وبتُّ أراعـيهــم متـــــى ينشرونني وقد وطنت نفسي على القتل والأسر
وبات رســـول الله فـــي الغار آمـناً هـنـاك وفــي حفظ الإله وفــــي ستر
أقام ثلاثاً ثـــم زمـــــت قلائــــــص قلائـــص يفرين الحصى أينما تفـري


إن هذا العمل العظيم الذي قام به الإمام العظيم علي (عليه السلام) وقع من أهل السماوات موقع الإعجاب والإكبار والتقدير،

وهذه المواساة هي الفريدة من نوعها في تاريخ الإسلام بل وفي تاريخ الأنبياء، فلا غرو ولا عجب إذا طأطأ العظماء

رؤوسهم إجلالاً لعلي (عليه السلام) ونثروا الثناء الجميل نظماً ونثراً، ولم ينحصر التنويه والإشادة بهذه المكرمة

بالمسلمين، بل شاركهم من غير المسلمين كل من تطبع بروح الفضيلة وحمل بين جوانح صدره قلباً وعى جزءً من الفتوة

والشهامة والنجدة وكل يعمل على شاكلته، وكل إناء بالذي فيه ينضح.


أما من المسلمين فالسيد ابن طاووس له كلام لطيف وتحقيق ظريف سنذكره.

وأما من غير المسلمين فأحدهم جورج جرداق الكاتب المعاصر وبولس سلامة في ملحمة الغدير، ونكتفي ـ هنا ـ بكلام ابن

طاووس وجورج جرداق وبولس سلامة.

قال السيد ابن طاووس في كتاب الإقبال...

ومن أسرار هذه المهاجرة: أن مولانا علياً (عليه السلام) بات على فراش المخاطرة وجاد بمهجته لمالك الدنيا والآخرة

ولرسوله (صلّى الله عليه وآله) فاتح أبواب النعم الباطنة والظاهرة، ولولا ذلك المبيت واعتقاد الأعداء أن النائم على

الفراش هو سيد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) لما كانوا صبروا عن طلبه إلى النهار حتى وصل إلى الغار، فكانت سلامة

صاحب الرسالة من قبل أهل الضلالة صادرة عن تدبير الله جل جلاله بمبيت مولانا علي (عليه السلام) في مكانه وآية باهرة

لمولانا علي (عليه السلام) شاهدة بتعظيم شأنه، وأنزل الله جل جلاله في مقدس قرآنه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء

مرضات الله والله رؤوف بالعباد) فأخبر أن لمولانا علي (عليه السلام) كانت بيعاً لنفسه الشريفة، وطلباً لرضاء الله جل

جلاله دون كل مراد، وقد ذكرنا في الطرائف من روى هذا الحديث من المخالف، ومباهاة الله جل جلاله تلك الليلة بجبرائيل

وميكائيل في بيع مولانا علي (عليه السلام) بمهجته، وأنه سمح بما لم يسمح به خواص ملائكته.


ومنها: أن الله جل جلاله زاد مولانا علياً (عليه السلام) من القوة الإلهية والقدرة الربانية إلى أنه ما قنع له أن يفدي النبي

(صلّى الله عليه وآله) بنفسه الشريفة، حتى أمره أن يكون مقيماً بعده في مكة مهاجراً للأعداء قد هربه منهم وستره

بالمبيت على الفراش وغطاه عنهم، وهذا ما لا يحتمله قوة البشر إلا بآيات باهرة من واهب النفع ودافع الضرر.


ومنها: أن الله عز وجل لم يقنع لمولانا علي (عليه السلام) بهذه الغاية الجليلة حتى زاده من المناقب الجميلة، وجعله أهلاً

أن يقيم ثلاثة أيام بمكة لحفظ عيال سيدنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأن يسير بهم ظاهراً على رغم الأعداء وهو

وحيد من رجاله، ومن يساعده على ما بلغ من المخاطرة إليه.

ومنها: أن فدية مولانا علي (عليه السلام) لسيدنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كانت من أسباب التمكين من مهاجرته

ومن كل ما جرى من السعادات والعنايات بنبوته، فيكون مولانا علي (عليه السلام) قد صار من أسباب التمكين من ما جرت

حال الرسالة عليه ومشاركاً في كل خير فعله النبي (صلوات الله عليه)، وبلغ حاله إليه، وقد اقتصرت في ذكر أسرار

المهاجرة الشريفة النبوية على هذه المقامات الدينية، ولو أردت بالله جل جلاله أوردت مجلداً منفرداً في هذه الحال، ولكن

هذا كاف شاف للمنصفين وأهل الإقبال.

وقال الكاتب المسيحي جورج جرداق في كتابه: (صوت العدالة الإنسانية): أما علي بن أبي طالب، فما كان أعجب أمره يوم

غامر في سبيل عقيدته التي هي عقيدة محمد بن عبد الله، وفي سبيل الحق ورعاية الشرف والإخاء هذه المغامرة التي لم

يعرف التاريخ أجل منها، وأقوى وأدل على وحدة الذات بين عظيم وعظيم.

وإنها لإرادة على التضحية قل أن تجد لها مثيلاً إلا في الظروف النادرة التي تقف بها النفس الإنسانية الواعية بين حالين من

وجود وفناء في حيز من إدراك معنى الوجود على مثال خاص.

فإما أن تؤثر لهذا الجسد عيشاً يقربه دون ما يحييه من قيم الحياة الصاعدة، فتنكر هذه القيم وتفضل عليها وجوداً هو أشبه

بالفناء من حيث أن الوجود حياة تحيا! وإما أن تؤثر لهذا الكيان الإنساني انصهاراً بكليات القيم دونما نظر إلى وجود

عضوي لا يتصل بروح الوجود الفذ، فتأتي هذه القيم سالكاً إليها طريق التهلكة.

وما فناؤك آنذاك إلا دليل على أن الوجود إنما هو لديك حياة تحيا لا عيش يعاش!

أجل، إنها لتضحية قل أن تجد لها مثيلاً إلا في اختيار سقراط للموت وفي مسلك غيره من السقارطة، تضحية علي بن أبي

طالب يفدي النبي بنفسه راضياً مختاراً على صورة أهون منها على لقاء الموت في ساحة القتال، أو على شفاه قمقم السم!

فما أصعب على المرء أن يأخذ مكان رجل حكم عليه المجرمون بالقتل.

وأن يرقد في فراشه فلا يخطئه هؤلاء إذا دخلت إرادتهم طور التنفيذ وهم منه على خطوات ينظرون إليه ويسمع إليهم.

ثم إنه يترقب بين حين وحين رؤية أنظارهم تتوامض بالغدر تحت عينيه، وسيوفهم تتلامع بالموت فوق رأسه، طوال ليلة

كاملة!

لقد كان علي بمغامرته هذه استمراراً لمحمد.

وكانت تضحيته من روح المقاومة التي عرف بها ابن عمه العظيم، وكان مبيته في فراش النبي تزكية للدعوة وحافزاً على

الجهاد الطويل! ثم إن في هذه المغامرة ما يوجز الحقيقة عن الإمام وطباعه ومزاجه، فإذا هي صادرة عنه كما تصدر

الأشياء عن معادنها دون تكلف ودون إجهاد.

ففيها نموه الذهني المبكر الذي جعله يدرك من الدعوة التي يدق فهمها فهماً صحيحاً على من كان في مثل سنه.

وفيها زهده بالحياة إذا لم تكن عمراً لمكارم الأخلاق.

وفيها صدقه المر وإخلاصه العجيب.

وفيها عدله بين نفسه وبين سواه من أهل الجهاد وما يتوخاه بذلك من نصرة للمظلومين والمستضعفين إذا قتل هو ونجحت

الرسالة على يدي صاحب الهجرة.

وفيها مواجهته للأمور بسماحة وبساطة لا يعرف معهما إلى الكلفة سبيلاً.

وفيها المروءة والوفاء والطيبة والشجاعة وسائر صفات الفروسية التي يمثلها علي بن أبي طالب.

بل قل هي شيء من استشهاده المقبل

وقال الأستاذ بولس سلامة في ملحمة الغدير:


هــــزه الشوق للنبــــــي فشـــــد العزم يهفــــو إلى جماع المآثر
في رمال الصحراء يسري وحيداً مقـفـر الكـف أعـوزته الأباعـر
صابر في العذاب والجوع حتـــى عجب القـفر مـن تقـشف صابر
إلى أن يقول:

لا فـراش ســوى الثرى، لا غــطاء لا ضياء سـوى النجوم الزواهر
فيناجي السهى يصعــد فــــي الأجــ ــــــواء طرفاً يشـق ستــــر الدياجر
إن هذا الصمت الرهـيب لقـــــــدس يغسل المــرء بالعـــذاب الصاهر
فالخطــــــوب الجســـــام والألم الممــ ـــدود وحــــــي مطهــــر للضمائر
فإذا كان طاهـــــــــــراً كعلــــــــــي شــــــــد لله قـلبـــــه بأواصــــر
يذكـــــــــــر الله بكـــــرة وعـشيـــا ويـصــلي فــي كل ومضة خاطر
فالمناجــاة والصــــــلاة عـطــــــور تتعـالـــى إلـــى السماء مباخـــر
يا رمال الصحـــراء هــــذا عـلـــــي فاملــئي الدرب والضفاف أزاهر
هـــو بعـــد النبـــــي أشرف ظـــــل لاح في الـسبسب الخلــي مهاجر
حملـــــي أجنــــــح الأثيـــــر نسيماً من جفــون الأسحار ريان عاطر
وابسطــي حولـــه الزنابــــق فـرشاً وانشري فـوقـــه الغمام مقاصر


وفي الختام صلو على محمد وآل محمد

وسيكون كلامنا في الليلة القادمة عن الهجرة

أي : الإمام علي عليه السلام والهجرة .

كعبة الاحزان1
12-15-2009, 06:28 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
علي عليه السلام ليلة المبيت
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وسلام على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين.

قال الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد).

حديثنا ـ الليلة ـ حول ما قام به علي (عليه لسلام) من التضحية والتفادي في سبيل رسول الله والدفاع عنه، ولقد ذكرنا في

الليلة الماضية شيئاً يسيراً مما قام به أبوه سيدنا أبو طالب (عليه السلام) في الدفاع عن النبي (صلّى الله عليه وآله)

والحماية له.
ومن هذه الليلة نبدأ بشرح ما قام به علي (عليه السلام) من توطين النفس لكل بلاء ومكروه في سبيل الإسلام، ولقد صدق

من قال:

ولولا أبو طالب وابنـــه لما مثل الدين شخصاً وقاما
فذاك بمكة آوى وحامى وهـــذا بيثرب جس الحماما
فـللـــه ذا فاتحاً للهـــدى ولله ذا للمعــالــــي ختـــاما

فقد خلق الله تعالى علياً (عليه السلام) ليكون أحسن وزير وأشرف نصير

للرسول وأوفى مدافع وأقوى مجاهد في سبيل الإسلام، ولقد تحقق الهدف الذي خلق علي (عليه السلام) من أجله، وقد ذكرنا

نهضته المباركة يوم الإنذار وإجابته طلب الرسول وتلبيته لندائه، وكانت تلك النهضة فاتحة قيامه وجهاده، إذ تجلت فيها

شخصية علي (عليه السلام) وعبقريته، وظهر مدى اعتماده على الله تعالى وعلى نفسه المتشبعة بالإيمان وقلبه المطمئن

بذكر الله.

واستمر الأمر من ذلك اليوم فكأنه فترة التدريب أو الامتحان التمهيدي الذي لا بد منه لكل مصلح منقذ أن يجس نبض

المجتمع ليكون على بصيرة أكثر فينضج فكره بالتجارب لاتخاذ التدابير اللازمة لمشروعه الذي ينوي القيام به والسير على

المخطط الذي جعله برنامجاً لحياته.

ولولا خشية الافتراء على علي (عليه السلام) لقلت: إن قلب علي (عليه السلام) هو أقوى قلب خلقه الله في صدور البشر،

وإن أعصاب علي كانت تستمد القوى من طاقة غير متناهية.

وإلا فكيف يمكن للبشر أن لا يدخل الخوف قلبه، ولا تتوتر من الأهوال أعصابه، ولا يخشى من المستقبل المبهم الغامض ولا

تستولي عليه الغرائز: غريزة حب الذات، حب الحياة، الأنانية وغيرها من الطبائع التي كثيراً ما تحول بين الإنسان وبين ما

يريد؟
ومن هذا الحديث ندرك الشجاعة التي خامرت نفس علي (عليه السلام) من صباه: عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام)

أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة ـ لما بارزه علي (عليه السلام) ـ : يا قضم؟

قال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب، وأغروا به الصبيان وكانوا إذا

خرج رسول الله يرمونه بالحجارة والتراب، وشكى ذلك إلى علي (عليه السلام)، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذا

خرجت فأخرجني معك.

فخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعه أمير المؤمنين (عليه السلام) فتعرض الصبيان لرسول الله (صلّى الله عليه

وآله) كعادتهم، فحمل عليهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم، الصبيان يرجعون

باكين إلى آبائهم ويقولون: قضمنا علي (عليه السلام) قضمنا علي.

فسمي لذلك: القضم.

ولقد حاول المشركون وكفار مكة خنق الإسلام والقضاء على حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بشتى الطرق والأساليب،

فكانت حركاتهم فاشلة، وجاءوا إلى أبي طالب وسألوه أن يمنع الرسول عن سب الآلهة!! وإفساد الشبان!! وتسفيه الأحلام!

فلم يجدوا التجاوب من أبي طالب (عليه السلام).

فجعلوا يحاربون النبي حرب الأعصاب، وجاءوا عن طريق التهديد والوعيد وإسناد السحر والجنون إليه، وقذفه بالحجارة

وتلويث ثيابه بالدم والأقذار.

وكتبوا الصحيفة القاطعة وقاطعوا بني هاشم أقسى مقاطعة، كل ذلك لا يزيد النبي إلا ثباتاً واستقامة، وخاصة لما نزلت عليه

الآية: (فاستقم كما أُمرت) واستمر الحال على هذا المنوال حتى توفيت السيدة خديجة الكبرى وبعد مدة يسيرة توفي

سيدنا أبو طالب، وكانا بمنزلة جناحين لرسول الله، وخيمت الأحزان على قلب الرسول حتى سمي تلك السنة (عام الحزن).

وعند ذلك خلا الجو للمشركين، واستضعفوا النبي لفقدان الناصر، وعزموا على اغتيال النبي وقتله، وإليكم التفصيل:

اجتمع المشركون في دار الندوة وتذاكروا حول قتل النبي (صلّى الله عليه وآله) وتقرر أخيراً أن يجتمع من كل قبيلة رجل

واحد ويهجموا على النبي (صلّى الله عليه وآله)، ويقتلوه في بيته، واجتمع أربعون رجلاً من أربعين قبيلة واجتمعوا على

باب دار النبي (صلّى الله عليه وآله) ونزل جبرائيل على النبي وأخبره بمكيدة القوم وأمره بالهجرة من مكة إلى المدينة،

فأرسل النبي إلى علي وقال له: يا علي إن الروح هبط علي يخبرني أن قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي وأنه أوحى إلي

عن ربي أن أهجر دار قومي وأن أنطلق إلى غار ثور، تحت ليلتي، وأنه أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفي

بمبيتك عليه أثري فما أنت قائل وصانع؟

فقال علي (عليه السلام): أوَ تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبي الله؟ قال: نعم، فتبسم علي (عليه السلام) ضاحكاً، وأهوى إلى

الأرض ساجداً، شكراً لما أنبأه به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من سلامته، فكان علي (عليه السلام) أول من سجد لله

شكراً، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلما رفع رأسه قال

له: امضي لما أمرت، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكون فيه كمسرتك وأقع منه بحيث مرادك، وإن

توفيقي إلا بالله، وقال النبي (صلّى الله عليه وآله): أو أن ألقي عليك شبهة مني، أو قال: شبهي، قال: أن يمنعوني نعم، قال:

فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم

من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا ابن أم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم

(عليه السلام) والذبيح إسماعيل (عليه السلام)، فصبراً صبراً، فإن رحمة الله قريب من المحسنين، ثم ضمه النبي (صلّى الله

عليه وآله) إلى صدره وبكى إليه وجداً به، وبكى علي (عليه السلام) جزعاً على فراق رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وفي رواية: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ لعلي (عليه السلام) ـ : أرضيت أن أُطلب فلا أُوجد وتوجد؟ فلعله أن يبادر

إليك الجهال فيقتلوك؟ قال: بلى يا رسول الله رضيت أن يكون روحي لروحك وقاءً ونفسي لنفسك فداء، بل رضيت أن يكون

روحي ونفسي فداء أخ لك أو قريب...

وهل أحب الحياة إلا لخدمتك، والتصرف بين أمرك ونهيك، ولمحبة أوليائك ونصرة أصفيائك ومجاهدة أعدائك.

لولا ذلك لما أحببت أن أعيش في هذه الدنيا ساعة واحدة.

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لعلي (عليه السلام) فإذا قضيت ما أمرتك من أمر فكن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وسر إلي لقدوم كتابي عليك، ولا تلبث بعده.
فانطلق النبي إلى الغار، ونام علي في مكانه ولبس برده، فجاء قريش يريدون أن يقتلوا النبي (صلّى الله عليه وآله)، فجعلوا

يرمون علياً وهم يرون أنه النبي وكان علي (عليه السلام) يتضور (يتلوى) من الألم ولا يتكلم لئلا يعرفوه، وكان القوم

يريدون الهجوم على البيت ليلاً، فيمنعهم أبو لهب ويقول لهم: يا قوم إن في هذه الدار نساء بني هاشم وبناتهم، ولا نأمن أن

تقع يد خاطئة إذا وقعت الصيحة عليهن، فيبقى ذلك علينا مسبة وعاراً إلى آخر الدهر في العرب.

فجلسوا على الباب حتى طلع الفجر، فتواثبوا إلى الدار شاهرين سيوفهم، وقصدوا نحو مضجع النبي ومعهم خالد بن الوليد،

فقال لهم أبو جهل: لا تقعوا به وهو نائم لا يشعر، ولكن ارموه بالأحجار لينتبه بها ثم اقتلوه، أيقظوه ليجد ألم القتل، ويرى

السيوف تأخذه!! فرموه بأحجار ثقال صائبة، فكشف عن رأسه، وقال: ما شأنكم؟ فعرفوه، فإذا هو علي (عليه السلام) فقال

أبو جهل: أما ترون محمداً كيف أبات هذا ونجا بنفسه لتشتغلوا به؟ وينجو محمد، لا تشتغلوا بعلي المخدوع لينجو بهلاكه

محمد، وإلا فما منعه أن يبيت في موضعه إن كان ربه يمنع عنه كما يزعم.

ثم قالوا: أين محمد؟ قال: أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم.

فأرادوا أن يضربوه فمنعهم أبو لهب، وقالوا لعلي: أنت كنت تخدعنا منذ الليلة (أي بنومك على فراش النبي خدعتنا وظننا

أنك محمد) وبقي النبي (صلّى الله عليه وآله) في الغار ثلاثة أيام وكان علي يأتيه بالطعام والشراب وفي رواية: استأجر

ثلاث رواحل للنبي ولأبي بكر ولدليلهم.

وخرج النبي بعد ذلك من الغار وتوجه نحو المدينة.

روى الثعلبي في تفسيره قال: لما أراد النبي (صلّى الله عليه وآله) الهجرة خلف علياً (عليه السلام) لقضاء ديونه، ورد

الودائع التي كانت عنده وأمر ليلة خرج إلى الغار، وقد أحاط المشركون بالدار، وقال له يا علي: اتشح ببردي الحضرمي،

ثم نم على فراشي فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله، ففعل ما أمره، فأوحى الله عز وجل إلى جبرائيل وميكائيل:

إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كل منهما الحياة، فأوحى الله

عز وجل إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب؟ آخيت بينه وبين محمد (صلّى الله عليه وآله) فبات على فراشه يفديه

بنفسه، ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا، فكان جبرائيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه،

وجبرائيل يقول: بخ بخ! من مثلك يا بن أبي طالب، يباهي الله بك ملائكته؟؟ فأنزل الله عز وجل على رسوله (صلّى الله عليه

وآله) وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله


والله رؤوف بالعباد).

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): نزل علي جبرائيل صبيحة يوم الغار، فقلت: حبيبي جبرائيل أراك فرحاً، فقال: يا محمد

وكيف لا أكون كذلك وقد قرت عيني بما أكرم الله به أخاك ووصيك وإمام أمتك علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقلت: بماذا

أكرمه الله؟ قال: باهى بعبادته البارحة ملائكته، وقال: ملائكتي! انظروا إلى حجتي في أرضي بعد نبيي وقد بذل نفسه، وعفر

خده في التراب تواضعاً لعظمتي، أشهدكم أنه إمام خلقي ومولى بريتي.

وكان علي (عليه السلام) يعتز ويفتخر بهذه الموفقية التي نالها من عند الله تعالى فقال شعراً:


وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى ومــن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
محمـــد لما خاف أن يمكـــروا بــه فوقـاه ربــــــي ذو الجلال من المكر
وبتُّ أراعـيهــم متـــــى ينشرونني وقد وطنت نفسي على القتل والأسر
وبات رســـول الله فـــي الغار آمـناً هـنـاك وفــي حفظ الإله وفــــي ستر
أقام ثلاثاً ثـــم زمـــــت قلائــــــص قلائـــص يفرين الحصى أينما تفـري


إن هذا العمل العظيم الذي قام به الإمام العظيم علي (عليه السلام) وقع من أهل السماوات موقع الإعجاب والإكبار والتقدير،

وهذه المواساة هي الفريدة من نوعها في تاريخ الإسلام بل وفي تاريخ الأنبياء، فلا غرو ولا عجب إذا طأطأ العظماء

رؤوسهم إجلالاً لعلي (عليه السلام) ونثروا الثناء الجميل نظماً ونثراً، ولم ينحصر التنويه والإشادة بهذه المكرمة

بالمسلمين، بل شاركهم من غير المسلمين كل من تطبع بروح الفضيلة وحمل بين جوانح صدره قلباً وعى جزءً من الفتوة

والشهامة والنجدة وكل يعمل على شاكلته، وكل إناء بالذي فيه ينضح.


أما من المسلمين فالسيد ابن طاووس له كلام لطيف وتحقيق ظريف سنذكره.

وأما من غير المسلمين فأحدهم جورج جرداق الكاتب المعاصر وبولس سلامة في ملحمة الغدير، ونكتفي ـ هنا ـ بكلام ابن

طاووس وجورج جرداق وبولس سلامة.

قال السيد ابن طاووس في كتاب الإقبال...

ومن أسرار هذه المهاجرة: أن مولانا علياً (عليه السلام) بات على فراش المخاطرة وجاد بمهجته لمالك الدنيا والآخرة

ولرسوله (صلّى الله عليه وآله) فاتح أبواب النعم الباطنة والظاهرة، ولولا ذلك المبيت واعتقاد الأعداء أن النائم على

الفراش هو سيد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) لما كانوا صبروا عن طلبه إلى النهار حتى وصل إلى الغار، فكانت سلامة

صاحب الرسالة من قبل أهل الضلالة صادرة عن تدبير الله جل جلاله بمبيت مولانا علي (عليه السلام) في مكانه وآية باهرة

لمولانا علي (عليه السلام) شاهدة بتعظيم شأنه، وأنزل الله جل جلاله في مقدس قرآنه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء

مرضات الله والله رؤوف بالعباد) فأخبر أن لمولانا علي (عليه السلام) كانت بيعاً لنفسه الشريفة، وطلباً لرضاء الله جل

جلاله دون كل مراد، وقد ذكرنا في الطرائف من روى هذا الحديث من المخالف، ومباهاة الله جل جلاله تلك الليلة بجبرائيل

وميكائيل في بيع مولانا علي (عليه السلام) بمهجته، وأنه سمح بما لم يسمح به خواص ملائكته.


ومنها: أن الله جل جلاله زاد مولانا علياً (عليه السلام) من القوة الإلهية والقدرة الربانية إلى أنه ما قنع له أن يفدي النبي

(صلّى الله عليه وآله) بنفسه الشريفة، حتى أمره أن يكون مقيماً بعده في مكة مهاجراً للأعداء قد هربه منهم وستره

بالمبيت على الفراش وغطاه عنهم، وهذا ما لا يحتمله قوة البشر إلا بآيات باهرة من واهب النفع ودافع الضرر.


ومنها: أن الله عز وجل لم يقنع لمولانا علي (عليه السلام) بهذه الغاية الجليلة حتى زاده من المناقب الجميلة، وجعله أهلاً

أن يقيم ثلاثة أيام بمكة لحفظ عيال سيدنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأن يسير بهم ظاهراً على رغم الأعداء وهو

وحيد من رجاله، ومن يساعده على ما بلغ من المخاطرة إليه.

ومنها: أن فدية مولانا علي (عليه السلام) لسيدنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كانت من أسباب التمكين من مهاجرته

ومن كل ما جرى من السعادات والعنايات بنبوته، فيكون مولانا علي (عليه السلام) قد صار من أسباب التمكين من ما جرت

حال الرسالة عليه ومشاركاً في كل خير فعله النبي (صلوات الله عليه)، وبلغ حاله إليه، وقد اقتصرت في ذكر أسرار

المهاجرة الشريفة النبوية على هذه المقامات الدينية، ولو أردت بالله جل جلاله أوردت مجلداً منفرداً في هذه الحال، ولكن

هذا كاف شاف للمنصفين وأهل الإقبال.

وقال الكاتب المسيحي جورج جرداق في كتابه: (صوت العدالة الإنسانية): أما علي بن أبي طالب، فما كان أعجب أمره يوم

غامر في سبيل عقيدته التي هي عقيدة محمد بن عبد الله، وفي سبيل الحق ورعاية الشرف والإخاء هذه المغامرة التي لم

يعرف التاريخ أجل منها، وأقوى وأدل على وحدة الذات بين عظيم وعظيم.

وإنها لإرادة على التضحية قل أن تجد لها مثيلاً إلا في الظروف النادرة التي تقف بها النفس الإنسانية الواعية بين حالين من

وجود وفناء في حيز من إدراك معنى الوجود على مثال خاص.

فإما أن تؤثر لهذا الجسد عيشاً يقربه دون ما يحييه من قيم الحياة الصاعدة، فتنكر هذه القيم وتفضل عليها وجوداً هو أشبه

بالفناء من حيث أن الوجود حياة تحيا! وإما أن تؤثر لهذا الكيان الإنساني انصهاراً بكليات القيم دونما نظر إلى وجود

عضوي لا يتصل بروح الوجود الفذ، فتأتي هذه القيم سالكاً إليها طريق التهلكة.

وما فناؤك آنذاك إلا دليل على أن الوجود إنما هو لديك حياة تحيا لا عيش يعاش!

أجل، إنها لتضحية قل أن تجد لها مثيلاً إلا في اختيار سقراط للموت وفي مسلك غيره من السقارطة، تضحية علي بن أبي

طالب يفدي النبي بنفسه راضياً مختاراً على صورة أهون منها على لقاء الموت في ساحة القتال، أو على شفاه قمقم السم!

فما أصعب على المرء أن يأخذ مكان رجل حكم عليه المجرمون بالقتل.

وأن يرقد في فراشه فلا يخطئه هؤلاء إذا دخلت إرادتهم طور التنفيذ وهم منه على خطوات ينظرون إليه ويسمع إليهم.

ثم إنه يترقب بين حين وحين رؤية أنظارهم تتوامض بالغدر تحت عينيه، وسيوفهم تتلامع بالموت فوق رأسه، طوال ليلة

كاملة!

لقد كان علي بمغامرته هذه استمراراً لمحمد.

وكانت تضحيته من روح المقاومة التي عرف بها ابن عمه العظيم، وكان مبيته في فراش النبي تزكية للدعوة وحافزاً على

الجهاد الطويل! ثم إن في هذه المغامرة ما يوجز الحقيقة عن الإمام وطباعه ومزاجه، فإذا هي صادرة عنه كما تصدر

الأشياء عن معادنها دون تكلف ودون إجهاد.

ففيها نموه الذهني المبكر الذي جعله يدرك من الدعوة التي يدق فهمها فهماً صحيحاً على من كان في مثل سنه.

وفيها زهده بالحياة إذا لم تكن عمراً لمكارم الأخلاق.

وفيها صدقه المر وإخلاصه العجيب.

وفيها عدله بين نفسه وبين سواه من أهل الجهاد وما يتوخاه بذلك من نصرة للمظلومين والمستضعفين إذا قتل هو ونجحت

الرسالة على يدي صاحب الهجرة.

وفيها مواجهته للأمور بسماحة وبساطة لا يعرف معهما إلى الكلفة سبيلاً.

وفيها المروءة والوفاء والطيبة والشجاعة وسائر صفات الفروسية التي يمثلها علي بن أبي طالب.

بل قل هي شيء من استشهاده المقبل

وقال الأستاذ بولس سلامة في ملحمة الغدير:


هــــزه الشوق للنبــــــي فشـــــد العزم يهفــــو إلى جماع المآثر
في رمال الصحراء يسري وحيداً مقـفـر الكـف أعـوزته الأباعـر
صابر في العذاب والجوع حتـــى عجب القـفر مـن تقـشف صابر
إلى أن يقول:

لا فـراش ســوى الثرى، لا غــطاء لا ضياء سـوى النجوم الزواهر
فيناجي السهى يصعــد فــــي الأجــ ــــــواء طرفاً يشـق ستــــر الدياجر
إن هذا الصمت الرهـيب لقـــــــدس يغسل المــرء بالعـــذاب الصاهر
فالخطــــــوب الجســـــام والألم الممــ ـــدود وحــــــي مطهــــر للضمائر
فإذا كان طاهـــــــــــراً كعلــــــــــي شــــــــد لله قـلبـــــه بأواصــــر
يذكـــــــــــر الله بكـــــرة وعـشيـــا ويـصــلي فــي كل ومضة خاطر
فالمناجــاة والصــــــلاة عـطــــــور تتعـالـــى إلـــى السماء مباخـــر
يا رمال الصحـــراء هــــذا عـلـــــي فاملــئي الدرب والضفاف أزاهر
هـــو بعـــد النبـــــي أشرف ظـــــل لاح في الـسبسب الخلــي مهاجر
حملـــــي أجنــــــح الأثيـــــر نسيماً من جفــون الأسحار ريان عاطر
وابسطــي حولـــه الزنابــــق فـرشاً وانشري فـوقـــه الغمام مقاصر


وفي الختام صلو على محمد وآل محمد

وسيكون كلامنا في الليلة القادمة عن الهجرة

أي : الإمام علي عليه السلام والهجرة .

اختكم
كعبة الاحزان

خادم الجوادين ع
04-05-2010, 05:31 PM
احسنتي .... غفر الله لك ولوالديك ولجميع المومنين والمومنات....
السلام على رسول الله السلام على علي المرتضى- السلام على فاطمة الزهراء- السلام على سيدي شباب اهل الجنه الحسن والحسين - السلام على التسعه المعصومين من ذرية الحسين عليهم صلوات الله وسلامه وتبريكاته اجمعين واللعنه الدائمه على اعدائهم من الاولين والاخرين الى يوم الدين ..

http://img716.imageshack.us/img716/4582/earth.gif

{ مَـلآڪََ !
04-10-2010, 05:51 AM
يسلمو على طرح المفيد
الله يعطيك الف عافية
لاخلا ولاعدم
تحياتي لك

http://www.mayyar.com/album/data/media/16/000.gif?sessionid=4e2a07f00acf6366d834619f5ba4ea29

حسيني البقاء
04-21-2010, 12:29 AM
شكرا لك
اللهم صلى على محمد وآل محمد

أم جنه
05-03-2010, 06:20 PM
اللهم صل على محمد وال محمد