عرض مشاركة واحدة
قديم 10-15-2015, 06:48 AM   رقم المشاركة : 3
صلاتي حياتي
(مشرفة منتدى الإمام الحسين عليه السلام)

الملف الشخصي




الحالة
صلاتي حياتي غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي رد: الم.. ذلك الحسين (رواية)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم


* * *

القافلة تطوي الصحراء.. والنجوم المحتشدة في السماء ترسل اضواء واهنة، فتبرق ذرّات الرمال، والقافلة التي سبقت قوافل الحجيج في مغادرة مكّة تنساب في بطون الاودية .. وخشخشة الاشواك تبوح باسرار الليل.
وصادفهم رجل في « الصفاح » يريد العمرة.
ـ من الرجل ؟
ـ الفرزدق بن غالب.
ـ هذا نسب قصير.
ـ انت اقصر نسباً مني.. انت ابن رسول الله.
ولاح سؤال عن الكوفة.. عاصمة ابيه واخيه.
ـ قلوبهم معك وسيوفهم عليك.
اية قلوب تلك لاتنقاد لها السواعد.. القلوب الخائفة قلوب ميتة.. انها قطعة لحم باردة.
وفي « ذات عرق » كان الحسين جالساً يقرأ كتاباً بين يديه.. وبين يديه ايضاً الصحراء المترامية... صحراء لانهاية لرمالها.. وبين يديه وقف التاريخ حائراً لا يدري أين مساره. ومرّ به رجل كان في الكوفة منذ أيام.. .
هزّ الرجل رأسه آسفاً:
ـ السيوف مع بني امية والقلوب معك.
ـ صدقت.
ـ ماذا تقرأ يابن رسول الله؟
ـ كتاباً من أهل الكوفة وهم قاتلي.. فاذا فعلوا ذلك لم يدَعوا لله محرّماً الاّ انتهكوه.
ـ أُنشدك الله في حرمة العرب.
ومضى الرجل الى وجهته.. ومضى التاريخ بعد أن عرف مساره.. كان يسير باتجاه يختلف قليلاً عن جهة الكوفة. هناك بمحاذاة النهر سيكون اللقاء.. سيبني التاريخ في تلك البقعة إحدى مدنه الخالدة.
وفي «الخزيمية» لوت النوق اعناقها.. توقفت هنيهة.. أصغت الى هاتف عجيب:


ألا يـا عيـن فاحتفلي بجهدِ فمَن يبكي على الشهداء بعدي
علـى قوم تسـوقهـمُ المنايا بـأقدار الى إنـجـاز وعدِ

وتمتم الحسين:
ـ القوم يسيرون والمنايا تسري اليهم.
ـ ألسنا على الحق يا أبي ؟
تأمل ابنَه الاكبر.. فحنّ الى جدّه.. .
ـ بلى والذي اليه مرجع العباد.
ـ يا أبتِ اذن لانبالي.
وفاضت عيناه شوقاً الى جدّه.
وفي « الثعلبية » قال الحسين لرجل تاهت به السبل.. لايدري أي الطريقين يسلك:
ـ يا أخا العرب! لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبريل في دارنا.. أفعلموا وجهلنا ؟! هذا ممّا لا يكون!
ومضى الرجل حائراً لايدري أي الطريقين يعني النجاة.. طريق الحسين أم طريق الحياة.
ومضت القافلة في طريقها الى الكوفة كانت الخطى تتجه، ولكن القلوب كانت تهفو الى مدينة أخرى.. مدينة لم تولد بعد.
كبّر صاحب للحسين:
ـ رأيت النخيل.. نخيل الكوفة.
استنكر آخر:
ـ ما بهذا الموضع نخل.. وانّما هو أسنّة الرماح وآذان الخيل.
ونظر الحسين:
ـ وأنا اراه ذلك.. أليس هنا ملجأ ؟
ـ نعم « ذو حسم » جبل عن يسارك.
وأناخت النوق.. هوَتْ بأثقالها الى الارض.. توقّفت سفُن الصحراء. توقفت لتتأكد من اتجاه البوصلة.. أو لتواجه القراصنة.. قراصنة التاريخ.


* * *

الكوفة خائفة. جلست ذليلة في حضرة ابن زياد.. وزياد يشير بسوطه.. فتتساقط الرؤوس.. وتطيح الايدي. وانحنت الرقاب « للأرقط ». لقد انتصر بجيشه الوهمي القادم من الشام. الكوفة كلّها أسيرة في قبضته.. تنقاد له طائعة. يصرخ فيها:
ـ اقتلوا آل الحسين.. إنهم اناس يتطهّرون.
وينتظم العبيد. عبيد الدنيا جيشاً عرمرماً يقوده «الحرّ».
المهمة خطيرة.. القبض على القافلة.. فارس يقود ألف فارس مدجّج السلاح يجوبون الصحراء بحثاً عن قافلة صغيرة..
قدر عجيب ساق هذا الرجل.. جعله في طليعة الذين يريدون اغتيال الحرّية.. وهو «الحرّ» كما سمّته أمّه..
والحرّ يجوب الصحراء في مهمّة كان يلعنها في اعماق نفسه.. الرمال الممتدة الى ما لانهاية تدعوه الى الرحيل.. الرحيل الى الشمس، وكانت الارض تشدّه اليها كما شدّت ألفاً يسيرون خلفه.
ويسمع الحرّ صوتاً عجيباً.. صوتاً قادماً من وراء الرمال:
ـ أبشرْ يا حرّ بالجنّة.
ـ أية جنّة وأنا سائر لقتال سبط النبي!
الخيل تلهث.. أضرّ بها الضمأ.. والصحراء تلتهب.. تتوهج.. تشتعل جحيماً لا يُطاق والحرّ يُبشَّر بالجنّة. وتبدو في الافق قافلة تتجه نحو ذي حسم (الجبل الصغير).
الشمس في كبد السماء تتشظى حمماً.. تتفجّر لهباً، والرمال تشتعل جمراً، والخيل تلهث.. تهوّم عيونها نحو سراب بعيد يحسبه الضمآن ماء. وقف الحرّ قبال الحسين في الظهيرة العظمى.. الخيول تنظر الى الحسين .. تشمّ رائحة الماء، وتحمحم.
هتف الحسين:
ـ اسقوهم وارشفوا الخيل..
ومرّت مئات الخيول الظامئة.. تعبّ من الماء.. وتطفئ لهب الصحراء.
ورأى الحسين فارساً وصل متأخراً، وقد أضرّ به العطش، فقال بلغة حجازية:
ـ أنخ الراوية.
ـ .. ؟!
ـ أنِخ الجمل.
اناخ الظامئ الجمل. ولما أراد أن يشرب، جعل الماء يسيل من السقاء، فقال الحسين بلغة حجازية:
ـ أخنِث السقاء.
فلم يدرِ الرجل ما يصنع، فعطف الحسين له السقاء حتّى ارتوى، وسقى فرسه.
وساد صمت رهيب رغم حمحمة الخيل.. وكان الجميع يتساءلون عن سرّ وجودهم في تلك البقعة الملتهبة من دنيا الله. وأذَّن «ابن مسروق» للصلاة، فقال الحسين:
ـ اتصلّي بأصحابك.
ـ لا، بل نصلّي جميعاً بصلاتك.
وصلّى الحسين بالجموع.. وصلّى خلفه ألف فارس كانوا يريدون القبض على الرجل القادم من الحجار. وقال الحسين بعد الصلاة:
ـ نحن أهل بيت محمّد أولى بالأمر من هؤلاء المدّعين.. السائرين بالجور والعدوان، فإن أبيتم إلاّ الكراهية لنا، والجهل بحقنا، وكان رأيكم على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم.. .
تساءل الحرّ:
ـ ما أدري، ما هذه الكتب التي تذكرها ؟!
فنظر الحسين الى «ابن سمعان»، فأحضر خرجَين مملوءين كتباً.. رسائل بالآلاف.. كتبها الكوفيون؛ كلّها تقول أن أقدم علينا ليس لنا إمام غيرك.
تمتم الحرّ خجلاً:
ـ لإني لست من هؤلاء.. واني أُمرت أن أُقْدمك الكوفة على ابن زياد.
قال صاحب الأنف الاشمّ:
ـ الموت أدنى اليك من ذلك.
القافلة تريد أن تستأنف رحلتها.. سفن الصحراء ترفع مراسيها. و«الحرّ» يعترض:
ـ انا أُنفّذ أمر الخليفة.
ـ ثكلتك امّك.
ـ اما لو غيرك من العرب يقولها لي ما تركت ذكر امّه كائناً من كان.. ولكن مالي الى ذكر امّك من سبيل.. فأمّك الزهراء البتول.
وأردف الحرّ متوسّلاً:
ـ لتسلك طريقاً وسطاً.. لا يُدخلك الكوفة ولايردّك الى المدينة، حتّى اكتب الى ابن زياد، فلعلّ الله يرزقني العافية.
كانت القافلة تسير باتجاه بوصلة القدر.. باتجاه مدينة تعيش في رحم المستقبل.
كانا يسيران على مهل.. يسيران في طريق واحد.. طريق رسمته الاقدار.
همس الحرّ بحزن:
ـ اني اذكرّك الله في نفسك، فانّي اشهد لئن قاتلتَ لتُقتلَنَّ.
وادرك الحسين ماتموج به أعماق « الحرّ »:
ـ أفبالموت تخوّفني؟!


سأمضي وما بالموت عارٌ عـلى الفتى اذا مـا نـوى حـقـاً وجاهد مـسلما
فـإن عـشت لم أندم وان متُّ لم أُلَم كـفى بـك ذلاً أن تـعيـش وتُرغما

وادرك الحرّ هدف الحسين.. الغاية التي يتحرك نحوها. ابتعد عنه.. أخذ ناحية أخرى من الطريق.. يسايره فيها من بعيد.. ولكنه شعر بنفسه تهفو الى الرجل السائر نحو الموت.. الرجل الذي قال من قبل: من لحق بنا استُشتهد، ومن تخلّف عنا لم يبلغ الفتح.


* * *



اللهم صل على محمد وآل محمد الأوصياء الراضين المرضيين بأفضل صلواتك وبارك عليهم بأفضل بركاتك
والسلام عليهم وعلى أرواحهم وأجسادهم ورحمة الله وبركاته



يتبع ...






رد مع اقتباس