عرض مشاركة واحدة
قديم 10-18-2015, 06:33 AM   رقم المشاركة : 5
صلاتي حياتي
(مشرفة منتدى الإمام الحسين عليه السلام)

الملف الشخصي




الحالة
صلاتي حياتي غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي رد: الم.. ذلك الحسين (رواية)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم


***

تجمعت في السماء النُّذُر.. وإرهاصات حرب مدمّرة تتراكم، كأكوام من الغيوم المشحونة بآلاف الصواعق.. وليل الصحراء مليء بالاسرار.
خرج رجل من بين مضارب الخيام.. عيناه تتألّقان تألّق النجوم.. وخرج رجل يتبعه.. يخاف عليه الغدر.
ـ مَن الرجل ؟!
ـ نافع بن هلال الجملي.
ـ ما الذي أخرجك في جوف الليل؟.
ـ أفزعني خروجك يا ابن النبي.. والظلام يخفي سيوفاً مسمومة وخناجر.
ـ خرجت اتفقّد التلاع والروابي، مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون.
شدّ الحسين على يد صاحبه وقال:
ـ هذه هي الارض التي وُعدت بها. ونظر الى صاحبه بإشفاق وأردف:
ـ الا تسلُك بين هذين الجبلين وتنجو بنفسك ؟
كظامئ اكتشف ينابيع الماء، ألقى نافع نفسه على ينبوع الخلد وحياة لاتفنى:
ـ ثكلتْني أمي يا سيّدي.. والله الذي مَنّ بك عليّ! لافارقْتُك أبدا.
ماذا رأى « نافع » تلك الليلة ؟! ماذا اكتشف لكي يفرّ من الدنيا.. لكي يسافر مع الحسين.. لعلّه شاهد في عينيه جنّة من أعناب ونخيل تجري من تحتها الأنهار..
وعاد الحسين الى مضارب القافلة، وفي عينيه تصميم وعزم..
الجيوش التي أحدقت بالفرات تسدّ الأفق.. تموج كالسيل.. كلاب مسعورة وذئاب تريد الفتك.. قبائل وحشية، أسكرتها نشوة السلب والنهب.. ما عساها تفعل القافلة في مهبّ إعصار فيه نار؟! سبعون سنبلة خضراء تحدق بها أسراب الجراد..
نظر الحسين الى آلاف السيوف التي جاءت تتخطّفه، وقال بحزن:
ـ الناس عبيد الدنيا، والدِّين لعق على ألسنتهم يحوطونه مادرّت معايشهم.
وتلفّت خلفه، فلم يجد الاّ ثلّة من المؤمنين؛ سبعون أو يزيدون، ومثلهم معهم من الضعفاء صبية ونساء.. وطريقان لاثالث لهما: السلّة أو الذلّة.
ـ هيهات منّا الذلّة.. الموت أولى من ركوب العار.
ـ لسوف يقودون بنات محمدٍ سبايا!
ـ العار أولى من دخول النار.
الذئاب الجائعة تعوي.. تتحفّز للفتك، والقبائل تحلم بالغزو وليالي السلب المجنونة.
شمّت النسور من بعيد رائحة معركة وشيكة، فراحت تدور في السماء.. تترقب صيدها بفارغ الصبر.. بدت وكأنها مقبرة هائلة فاغرة الأفواه..
القبائل تشاورت حول الأسلاب.. تفاهمت.
وقف « الأبرص » على الميسرة، وانفرد « ابن الحجاج » بالميمنة، فيما وقف بينهما رجل قارب السبعين يحلم بـ « الري » و« الجرجان ».
ـ ماذا أعددت لهؤلاء يا سيدي الحسين ؟
ـ سيف محمّد.
ـ وما ذا ؟
ـ ورجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
ـ وما ذا ؟
ـ والأجيال.
وشوهد الحسين يجول بفرسه.. يرسم خطّة المواجهة.
ـ قارِبوا بين الأبنية.
تعانقت الخيام ببعضها.. تلاحمت كالبنيان المرصوص.
وشوهد الحسين وأصحابه يحفرون الخنادق خلف الخيام ويملأونها حطباً.
ـ كيلا تقتحمه الخيل..
ـ ويكون القتال في جبهة واحدة.
الاطفال ينظرون ـ بحزن ـ جهة الفرات. شفاه يابسة تحلم بالندى.. وفتيات بلغتْ قلوبهن الحناجر يصغين ـ برعب ـ الى طبول قبائل تحلم بالغزو والسبي؛ ونسور مجنونة تحوم.. تنتظر لحظة الانقضاض. هي ذي لحظات الغروب تتراكم ملتهبة.. والفرات يتأجّج خلف ذُرى النخيل المتّقدة.. الليل يوشك أن يهبط والحمرة القانية تتحول الى رماد.. الظلام يجثم فوق الرمال كغراب في مساء خريفي. الحزن يجوس خلال الخيام.. ينشر ظلّه الثقيل.. وآهات تتصاعد من كل مكان.. وأمنيات خضراء تحلم بالمطر والخصب والحياة.
دخل الحسين خيمة أخته زينب.. المرأة التي شهدتْ ـ من قبل ـ مصرع أبيها واغتيال أخيها.. فجاءت تحرس آخر أصحاب الكساء. تريد أن تشاركه في كل شيء.. تقتسم معه الموت والخلود.
نسيم هادئ حرّك طرف الخيمة.. ربّما مسح عليها مواسياً قبل هبوب العاصفة.
قالت زينب:
ـ هل استعلمتَ من أصحابك نيّاتهم، فإنّي أخشى أن يُسلموك عند الوثبة.
ـ والله لقد بلوتهم، فما وجدت فيهم الاّ الأشوس الأقعس.. يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل الى محالب امّه.
وكان نافع يصغي الى هموم زينب.. الى مخاوف عقيلة بني هاشم. أسرع نافع الى رجل ذرّف على الستين بأعوام:
ـ هلمّ يا حبيب .. هلّم الى زينب.. انها تخشى الغدر.. وقد اجتمعت النسوة عندها يبكين.
بريق نفّاذ اتّقد في العينينِ الأسديتَين.. توهجات الغضب المخزون اشتعلت كلّها في لحظة واحدة.. هتف حبيب:
ـ يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة!
انبعثت من بين الخيام سيوف ورجال. العزم المشتعل في العيون يكاد يضيء التاريخ، والسواعد المفتولة توشك أن تلوي الاقدار.
وقف الرجال إزاء خيمة يعصف بها القلق والخوف.
هتف حبيب:
ـ يا معشر حرائر رسول الله! هذه صوارم فتيانكم. آلوَا ألاّ يغمدوها الاّ في رقاب من يريد السوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم أقسموا ألاّ يركزوها الاّ في صدور من يفرّق ناديكم..
ومن قلب الخيمة الحزينة، ينبعث صوت استغاثة.. استغاثة ما تزال حتى اليوم تستفهم التاريخ والانسانية. صوت امرأة خائفة تنشد حقّها في السلام.
ـ ايّها الطيّبون! حاموا عن بنات رسول الله.
لو كانت الغيوم حاضرة لتفجرّت مطراً ساخناً كدموع الأطفال.
وبكى الرجال.. بكت العيون المتأجّجة وهي تتطلّع إلى مذبحة مروّعة ستحدث بعد ساعات.
وفي سحر تلك الليلة، رأى الحسين ـ في عالم الأطياف ـ كلاباً تنهشه.. تتخطف جسده، وأشدّها كان الأبقع..


* * *

فجر يشبه رماداً ذرّته الريح في العيون، والفرات ما يزال يجري متلوّياً كحيّة تسعى، والقبائل التي باتت تحلم بالأسلاب استيقظت ترنو بعيون متنمّرة الى مضارب خيام بعيدة.
اختلطت أصوات عديدة؛ رغاء جِمال.. وصهيل خيول.. وقعقعة سيوف ورماح ودموع.
والحرّ الذي أوقع بالقافلة، وساقَها الى أرض الموت، يقف مشدوهاً لمنظر جموع غفيرة.. جاءت لقتل سبط النبي. لم يخطر بباله أبداً أن تنحدر الكوفة لقتل «المخلّص»..
حرّك فرسه الى مقدّمة الصفوف، وراح يحدّق في الأفق حيث يقف الحسين. شاهده من بعيد يرتّب مقاتليه. انّهم لايزيدون على السبعين أو الثمانين. هل سيقاتل الحسينُ حقاً ؟ هل يدخل معركة خاسرة ؟
وسمع الحرّ الحسين يخطب بجيشه الصغير:
ـ ان الله تعالى قد أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم، فعليكم بالصبر والقتال.. .
رآهم ينقسمون الى ثلاث فرق؛ الجناح الأيمن بقيادة « زهير بن القين »، والجناح الأيسر بقيادة « حبيب بن مظاهر ». أمّا الحسين فقد ثبت في القلب.. وتسلّم الرايةَ «أبوالفضل» فبدا والراية تخفق فوق رأسه جيشاً لوحده.
القبائل تزحف باتجاه الخيام.. والخيول تجول.. تثير غباراً والقلوب الصغيرة في حنايا الخيام تخفق بشدّة.. يا له من يوم عصيب!.
أصدر الحسين أمره بإضرام النار في الخندق.. فتصاعدت ألسنة اللهب.. وتراجعت الخيول.. فرّت مذعورة من خطّ النار.
اغتاظ « الأبرص » من هزيمة فرسانه، فصاح بنفاق:
ـ يا حسين، تعجّلت بالنار قبل يوم القيامة!
سأل الحسين مستوثقاً:
ـ من هذا ؟! كأنّه شمر بن ذي الجوشن!
ـ نعم.. إنّه الشمر.
انطلق صوت الحسين:
ـ يابن راعية المعزى! أنت أولى بها منّي صليّاً.
وضع « مسلم بن عوسجة » سهماً في كبد القوس.. استهدف الأبرص الذي باع نفسه للشيطان. وفي اللحظة الاخيرة، تدخّل الحسين قائلاً:
ـ أكره أن أبدأهم بقتال.
تذكّر الحسين كيف كان الأبقع ينهش جسده بوحشية. رفع يديه الى السماء.. الى العالم اللانهائي .. شاكياً ويلات الارض. كانت كلماته تنساب كنهر بارد.. نهر قادم من جنات عدن:
ـ اللّهمّ أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدّة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدّة.. كم مِن همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ أنزلتُه بك وشكوته اليك؛ رغبةً منّي اليك عمّن سواك، فكشفتَه وفرّجته. فأنت وليّ كلّ نعمة ومنتهى كل رغبة.
القبائل تزداد ضراوة.. والسيوف تبرق من بعيد.. تقطر حقداً ونذالة.. والحرّ يتقدّم قليلاً قليلاً. راح ينظر الى الحسين الذى ركب ناقته.. يريد أن يخطب بالقبائل المحيطة به. أرهف الحرّ سمعه لهذا القادم من اقصى الجزيرة يحمل معه كلمات محمّد وعزم عليّ.
استوى الحسين على ناقته، فبدا كنبيٍّ يعظ قومه:
ـ ايّها الناس! اسمعوا قولي ولاتعجلوا حتّى أعظكم بما هو حق لكم علَيّ، وحتى اعتذر اليكم من مَقدمي عليكم. فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي وأعطيتموني النصَف من انفسكم كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل. وإن لم تقبلوا منّي العذر ولم تعطوا النصَف من انفسكم فأجمِعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غُمّة ثمّ اقضوا إليَّ ولا تُنظرون. إنّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين.
اختلطت الكلمات مع بكاء مرير انبعث من قلب الخيام...
توقف الحسين عن إلقاء الخطاب.. أمر أخاه « أباالفضل » وابنه « علياً الأكبر »:
ـ سكّتاهنّ، فلعمري لَيكثر بكاؤهن..
عاد الصمت ثقيلاً.. سكوت عجيب يهمين على كل شيء ما خلا ريحاً خفيفة كانت تحمل كلمات الحسين:
ـ ايّها النّاس! إنّ الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرِّفةً بأهلها حالاً بعد حال. فالمغرور من غرّته، والشقي من فتنته. فلاتغرّنّكم هذه الدنيا فإنّها تقطع رجاء من ركن اليها، وتخيّب طمع من طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته. فنعم الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد، ثمّ انّكم زحفتم الى ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم. لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم.. فتبّاً لكم ولما تريدون. إنّا لله وانا اليه راجعون.. هؤلاء قوم كفروا بعد ايمانهم، فبُعداً للقوم الظالمين...
الكلمات تخترق الآذان .. تتغلغل في القلوب. شعر الحرّ بأن زلزالاً يضرب دنياه. راح يصغي الى دويّ الأنقاض وهي تتراكم في اعماقه:
هل أنا في كابوس ؟.. ماذا أرى ؟.. ماذا أسمع ؟ ربّاه ماذا افعل ؟!
راكب الناقة مايزال يرسل كلمات يبعثها مع الريح.. على أجنحة الفكر..
ـ ايّها الناس! انسبوني من أنا، ثمّ ارجعوا الى انفسكم وعاتبوها وانظروا، هل يحلّ لكم قتلي.. ألست أنا ابن بنت نبيكم؟ وابن وصيه وابن عمه؟ وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله؟.. أو ليس حمزة سيّدالشهداء عمَّ أبي ؟ أو ليس جعفر الطيار في الجنّة عمّي؟.. أو لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنّة ؟ فإن صدّقتموني بما أقول، وهو الحق، واللهِ ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم. سلوا « جابر بن عبدالله الانصاري » و« أبا سعيد الخدري » و« سهل بن سعد الساعدي » و« زيد بن أرقم » و« أنس بن مالك » يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي. أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي ؟. صرخ صوت شيطاني يريد أن يبتلع كلمات الانبياء. صرخ الابرص:
ـ إنّا لاندري ما تقول ؟!
هتف حبيب، وكان رجلاً على أعتاب السبعين:
ـ أشهد أنّك صادق ماتدري ما يقول. قد طبع الله على قلبك.
البركان الثائر يستأنف إرسال حممه:
ـ فإن كنتم في شكّ من هذا القول، أتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم، فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويْحَكم! أتطلبوني بقتيل لكم قتلته! أو بمال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة ؟!
وقفت القبائل عاجزة. إنّ في طينة البشر قابليه الانحطاط.. الانحطاط حتّى المسخ.. قابلية تشبه الجاذبية في الاجسام. الكوفة مثقلة بالاثم والغدر.. قلبها مع الحسين وسيفها يمزّق قلبه.
ونادى الحسين بصوت جَهْوَري:
ـ يا « شبث بن ربعي » ويا « حجّار بن أبجر » ويا « قيس بن الأشعث » ويا« زيد بن الحارث »! ألم تكتبوا إليّ أن أقدم قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وانّما تقدم على جند لك مجنّدة ؟!
تعالت اصوات مذعورة.. أصوات فئران خائفة:
ـ لم نفعل.. لم نفعل.
ـ سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم.. ايّها النّاس! اذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم الى مأمن من الارض.
صرخ قيس بن الاشعث، وقد التمعت عيناه بالغدر:
ـ أوَلا تنزل على حكم ابن عمّك؟ فإنّهم لن يُروك الاّ ما تحب، ولن يصل اليك منهم مكروه.
ـ انت أخو أخيك. أتريد أن يطلبك بنوهاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد.. عباد الله! انّي عذت بربي وربّكم أن ترجُمون. اعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لايؤمن بيوم الحساب.


* * *


اللهم صل على محمد وآل محمد الأوصياء الراضين المرضيين بأفضل صلواتك وبارك عليهم بأفضل بركاتك
والسلام عليهم وعلى أرواحهم وأجسادهم ورحمة الله وبركاته


يتبع ...






رد مع اقتباس