عرض مشاركة واحدة
قديم 10-20-2015, 05:40 AM   رقم المشاركة : 6
صلاتي حياتي
(مشرفة منتدى الإمام الحسين عليه السلام)

الملف الشخصي




الحالة
صلاتي حياتي غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي رد: الم.. ذلك الحسين (رواية)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم



* * *

اشرقت الشمس.. حمراء .. حمراء.. بركة من دماء. التمعت ذرى النخيل، وتوهجت ذرات الرمال، واصطبغت وجوه القبائل بلون الجريمة.. واستيقظ الشيطان يعربد ويدمّر..
صرخ شيطان من القبائل:
ـ يا حسين.. أبشر بالنار.
ـ كذبت، بل أقدم على ربّ غفور كريم.. فمن انت؟.
ـ انا ابن حوزة.
رفع السبط يديه الى السماء:
ـ اللّهم حِزه الى النار.
لا أحد يعرف كيف حدث الأمر. ما الذي أغضب الفرس؟ ما الذي دفعها لأن تركض كالمجنونة.. تدور وتدور. وفي فورة غضب تمكنت الفرس أن تقذف من على ظهرها الفارس.. في قلب الخندق المشتعل. لحظات مرّت تحول فيها ابن حوزة الى رماد.. تحولت احلام السلب والنهب وشهوة القتل الى هشيم تذروه الريح...
لو كان هناك رجل من الحواريين لقال هذا ابن الله.
ولقال له الحسين:
ـ انا ابن نبي الله.
هتف السبط:
ـ اللّهم انا اهل بيت نبيّك وذريّته وقرابته، فاقصم من ظلَمنا وغصَبنا حقّنا إنّك سميع قريب...
ما أقرب السماء للإنسان إن سما! وتذكر الحسين رجلاً سأل أباه: كم هي المسافة بين السماء والارض؟ فأجاب « باب مدينة العلم »: دعوةٌ مستجابة.
وقف ابن سعد منتشياً بأحلامه.. ما هي الاّ ساعة، ثمّ ينتهي كل شيء.. سوف يُحكم قبضته على الري وجرجان.. لم تبق الاّ خطوة واحدة.. أن يعبر جثة الحسين.. بركة صغيرة من الدم.. ثمّ ينطلق صوب الشرق.. الى عالم يزخر بالجواري والحريم.
تقدم الحرّ.. أيقظه من الحلم:
ـ أمقاتل انت هذا الرجل؟!
ـ إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الايدي.
ـ دعوه ينصرف الى مكان في هذه الأرض ؟
ـ لو كان الأمر بيدي لقبلت.. انّها أوامر ابن زياد.
ادرك الحرّ أن الساعة آتية لاريب فيها، ولسوف تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى.. وبدأ الحرّ يخطو صوب القافلة.. قال «ابن أوس» وقد ذهبت به الظنون:
ـ اتريد أن تحمل ؟!
ـ ..
ضرب الزلزال الاعماق مرّة أخرى، وشعر الحرّ بالأنقاض تتراكم بعضها فوق بعض...
هتف ابن أوس متعجباً:
ـ لو قيل لي مَن أشجع أهل الكوفة لما عدوتك؟ فما هذا الّذي اراه منك ؟!التفت الحرّ وصوّب نحوه نظرة تحمل كل معاني الاكتشاف:
ـ انّي أُخيّر نفسي بين الجنّة والنار.. والله لاأختار على الجنّة شيئاً ولو أُحرقت..
تمتم ابن سعد مذهولاً:
ـ ماذا أرى ؟.. ماذا يفعل هذا المجنون ؟.. كيف يختار الانسان الموت!.. انظروا اليه.. كيف يبدو خاشعاً أمام الحسين..
ـ انصتوا انه الحرّ.
قهقه أحدهم:
ـ إنّه يريد موعظتنا هو الآخر..
هتف شبث بن ربعي:
ـ ايّها الأحمق! دعنا نسمع ما يقول.
وجاء صوت الحرّ جَهْورياً مدوّياً منطلقاً من اعماق نفس اكتشفت ينابيع الخلود:
ـ يا أهل الكوفة لأُمّكم الهبل والعبر، إذ دعوتُموه وأحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجّه الى بلاد الله العريضة حتّى يأمن هو وأهل بيته، واصبح كالأسير في ايديكم لايملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، وحلأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه! وها هم قد صرعهم العطش. بئسما خلفتم محمداً في ذريّته..
وانطلقت نحوه السهام كالمطر.. وتقهقر الحرّ متفادياً نبال القبائل الغادرة.


* * *

نسور مجنونة تحوم في السماء، وريح عاصف تهب من ناحية الصحراء، وبدت اشجار النخيل كرماح مركوزة في خاصرة الفرات.
بدا الجوّ مشحوناً بالخطر، ومثلما تندلع الصواعق بين اكوام السحب، تدفقت سهام مجنونة تحمل في انصالها الموت.
هتف الحسين بأنصاره:
ـ قوموا رحمكم الله الى الموت الذي لابدّ منه، فإن هذه السهام رسُل القوم اليكم.
هبّ رجال كانوا ينتظرون على أحرّ من الجمر.
كيف اصبح الموت أمنيّة لهم ؟ كيف اضحى في نظرهم خلوداً.. كيف تحولت الصحراء الملتهبة الى جنات تجري من تحتها الانهار ؟!
غاص الرجال في احراش كثيفة من رماح وسيوف. كانوا يقاتلون بضرواة لا نظير لها. كما لو كانوا يريدون توجيه مسار التاريخ الاتجاه الّذي ينشدون.
امتلأ الجوّ غباراً ودخاناً، وكانت السيوف تهوي كبروق مشتعلة. وعندما غادر الغبار ارض المعركة، كان هناك خمسون صريعاً يعالجون جراحاتهم في الرمضاء.. الجراح تسقي الارض.. والدماء تروي شجرة الحرّية.. شجرة اصلها ثابت في اعماق التراب، وفرعها في هامة السماء.
تمتم الحسين متألماً:
ـ اشتد غضب الله على اليهود اذ جعلوا له ولداً، واشتدّ غضبه على النصارى اذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتد غضبه على المجوس اذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتد غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم.. أما والله لا أُجيبهم الى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضب بدمي.
هجم الأبرص على إحدى الخيام، وقد اشتعلت في عينيه شهوة النهب، وهاج شيطان يعربد في اعماقه:
ـ عليَّ بالنّار لأحرقه على أهله..
القلوب الصغيرة الخائفة فرّت مذعورة من الخيمة كطيور هاربة من سفن بعيدة غرقت.
صاح الحسين:
ـ يا ابن ذي الجوشن! انت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي.. أحرَقَك الله بالنّار.
استنكر شبث بن ربعي الحضيض الذي وصل اليه رفيقه.
ـ أمُرعباً للنساء صرت ؟! ما رأيت مقالاً أسوأ من مقالك، ولا موقفاً أقبح من موقفك.
وتمتم وهو يعضّ على يده:
ـ قاتلنا مع علي بن ابي طالب ومع ابنه من بعده آلَ أبي سفيان خمس سنين، ثمّ عدَونا على ولده ـ وهو خير أهل الارض ـ نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية!.. ضلال .. يا لك من ضلال!!
توسطت الشمس كبد السماء والقبائل تتخطف القافلة..
التفت « أبو ثمامة الصائدي » الى الحسين. قال بخشوع:
ـ نفسي لك الفداء. إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك. لا والله لا تُقتل حتّى أُقتل دونك. وأحب أن ألقى الله وقد صلّيت هذه الصلاة الّتي دنا وقتها.
رفع الحسين رأسه الى السماء وألقى نظرة على الشمس:
ـ ذكرتَ الصلاة.. جعلك الله من المصلّين الذاكرين، نعم هذا أوّل وقتها..
وأردف وهو يجفف حبّات عرق تلتمع فوق جبينه:
ـ سلوهم أن يكفّوا عنا حتّى نصلّي.
هتف ابن نمير وكان فظّاً غليظ القلب:
ـ إنّها لا تُقبل!
أجاب حبيب بن مظاهر غاضباً:
ـ زعمت أنها لاتقبل من آل الرسول وتُقبل منك يا حمار!
عربد الشيطان في اعماق « ابن نمير »، فأقحم الفرس نحو « حبيب » وحبيب واقف كالجبل لم يكترث بالجموع وهي تنحدر نحوه. وتخطفته سيوف القبائل.. وانسابت دماؤه قانية فوق رمال الصحراء تروي لها أروع قصص الوفاء والتضحية والفداء.
واسترجع الحسين كثيراً:
ـ عندالله احتسب نفسي وحُماة أصحابي.
القبائل تموج كأنها ريح صفراء تحمل في طياتها الموت؛ والحسين وسط الإعصار يصلّي بأصحابه الصلاة الأخيرة.. السماء تفتح ابوابها للقافلة القادمة، والفضاء يزخر بأجنحة الملائكة.. ونسائم طيبة تحمل رائحة الربيع.. ربيع جنّات الفردوس.
الفت الحسين الى اصحابه وهو يشير الى مسار القافلة:
ـ يا كرام! هذه الجنّة قد فُتحت أبوابها، واتصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله، والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله يتوقّعون قدومكم ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله ودين نبيه، وذبّوا عن حرم الرسول..
القافلة الّتي اكتشفت ينابيع الخلد تهبّ للخطى الاخيرة:
ـ نفوسنا لنفسك الفداء، ودماؤنا لدمك الوقاء. فوالله لايصل اليك والى حرمك سوء وفينا عرق يضرب.
السماء تفتح أبوابها، والرجال يعرجون. تقدم « أبوثمامة » الى المعراج، وما أسرع أن حلّق الى السماوات مخلِّفاً وراءه برْكة من دماء قانية.
ومن بعده انطلق «زهير». وضع يده فوق منكب الحسين، وانشد:
أقـدِمْ هُـديتَ هادياً مهديّا
فـاليوم ألقى جـدّك النبيّا
وحسناً والمرتـضى عليّا
وذا الجناحين الفتى الكميّا
ـ وأنا ألقاهما على اثرك.
وما أسرع أن التحق برفاقه. القافلة تطوي السماوات.. تتخطى الكواكب والافلاك.. في عروج ملكوتي فريد.
وقف الحسين عند مصرعه، وقال متأثراً:
ـ لا يبعدنّك الله يا زهير! ولعن قاتليك، لعْن الّذين مُسخوا قردة وخنازير.
واستعد « نافع الجملي » للرحيل، فغاص في اعماق القبائل وانهمرت عليه الحجارة من كل صوب، فتهشم عضُداه، وسيق اسيراً. كانت الدماء تنزف منه، وقد صبغته بحمرتها المشتعلة. قال ابن سعد بلهجة ينمّ منها الإعجاب ببسالته:
ـ ما حملك على ما صنعت بنفسك ؟!
ـ إن ربّي يعلم ما أردت.
ـ أما ترى ما بك ؟!
ـ والله لقد قتلتُ منكم اثني عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسي على الجهد.. ولو بقيت لي عضد ما أسرتموني.
جرّد الأبرص سيفه وقد برقت عيناه حقداً.. فقال نافع بطمأنينة:
ـ والله يا شمر لو كنت من المسلمين لَعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا.. فالحمد لله الّذي جعل منايانا على أيدي شرار خلقه..
هوى السيف بقسوة، وتدحرج الرأس فوق الرمال، وعيناه تنظران باتجاه عوالم لانهائيّة، وقد ارتسمت ابتسامة هادئة فوق شفتين ذابلتين من الظمأ.
ونادى رجل من القبائل:
ـ يا برير! كيف ترى صنع الله بك؟
أجاب برير وهو ينظر الى ما وراء غبار الزمان:
ـ صنع بي خيراً، وصنع بك شرّاً.
ـ كذبت وقبل اليوم ما كنت كذّابا. أتذكر يوم كنتُ أماشيك في « بني لوذان » وانت تقول: كان معاوية ضالاً وان إمام الهدى علي بن ابي طالب:
ـ بلى اشهد ان هذا رأيي.
ـ وانا اشهد انك من الضالّين.
ـ تعال نبتهل الى الله فيلعن الكاذب منا ويقتله.
توجهت أيدٍ مع قلوب الى السماء تستمد النصر، وارتفعت ايد جذّاء. فتُقبّل من احدهما ولم يُتقبَّل من الآخر. وبدأت المنازلة.. هوى برير بسيف يشبه صاعقة مدمّرة.. فهوى الرجل الذي حاقت به اللعنة الى الارض كأنما خرّ من شاهق.


***

اللهم صل على محمد وآل محمد الأوصياء الراضين المرضيين بأفضل صلواتك وبارك عليهم بأفضل بركاتك
والسلام عليهم وعلى أرواحهم وأجسادهم ورحمة الله وبركاته


يتبع ...






رد مع اقتباس