عرض مشاركة واحدة
قديم 04-27-2009, 06:06 PM   رقم المشاركة : 1
أبو حيدر
يا منصور أمت.


 
الصورة الرمزية أبو حيدر
الملف الشخصي





الحالة
أبو حيدر غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

Thumbs down × حكم البناء على القبور في الشريعة الإسلامية ×

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف

× حكم البناء على القبور في الشريعة الإسلامية ×

مقدّمة:

منذ زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) وحتّى أيام ابن تيمية المتوفّى عام (708 هـ) وتلميذه ابن القيم المتوفّى سنة (751 هـ)، سبعة قرون ونصف مضت على المسلمين وهم لا يعرفون في أُمورهم الشرعية مسألة تثير التشنج والخصومة بينهم باسم مسألة البناء على القبور، حتّى جاء ابن تيمية فأفتى بعدم جواز البناء على القبور.

حيث كتب، يقول: (اتفق أئمة الإسلام على أنّه لا يشرع بناء هذه المشاهد التي على القبور، ولا يشرع اتّخاذها مساجد، ولا تشرع الصلاة عندها... الخ)(1).

ثمّ جاء بعده ابن القيّم الجوزية حيث كتب، يقول: (يجب هدم المشاهد التي بُنيت على القبور، ولا يجوز إبقاؤها بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً)(2).

ثمّ جاء بعدهم محمد بن عبد الوهاب المتوفّى سنة (1206 هـ) فحوّل التشدّد والخشونة إلى مذهب فقهي يعتمد على التكفير والاتهام بالشرك والتهديد بهدر الدم وسبي الذراري لكل من ارتكب سبباً من أسباب التكفير عنده، وما أكثرها! بل ولكل من خالفه في تكفير المتهمين بالكفر عنده.

ويُعد اعتناق حاكم الدرعية محمد بن سعود لأفكار محمد بن عبد الوهاب، أهم عامل أدّى إلى ذيوعها وانتشارها وتجميع القوى البدوية من أجل نصرتها وتطبيقها والسعي لحمل المناطق المجاورة على التقيّد بها.

ومنذ ذلك الوقت وحتّى يومنا هذا أصبحت مسألة بناء المشاهد على القبور من أبرز ما يشنّع به الوهابيون على سائر المسلمين، وسيفاً يُشهر للاتهام بالكفر والشرك، وسبباً من أسباب الصراع وضياع وحدة المسلمين.

ونظراً لأهمية هذه المسألة وحساسيتها الشديدة، فقد تكفلت هذه الدراسة ببحثها من جهاتها المختلفة، ورائدنا فيها هو بيان الحقيقة ودرء خطر التمزّق عن المسلمين، ومكافحة نزعة التكفير بينهم، وحماية وحدتهم وشوكتهم من التصدّع.

المسألة في ضوء القرآن الكريم:

إذا جئنا إلى القرآن الكريم نستنطق رأيه في المسألة محل البحث، نجد فيه جملة من الآيات التي تساعدنا على استخلاص الموقف القرآني بشأنها; وهي:


1 ـ قوله تعالى: (وَكَذلِكَ أعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إذْ يَتَنَازَعُونَ بَـيْنَهُمْ أمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُـنْيَاناً رَبُّهُمْ أعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)(3).

وجه الاستدلال بالآية أنّها أشارت إلى قصّة أصحاب الكهف، حينما عثر عليهم الناس فقال بعضهم: نبني عليهم بُنياناً، وقال آخرون: لنتّخذنّ عليهم مسجداً.

والسياق يدل على أن الأوّل: قول المشركين، والثاني: قول الموحّدين، والآية طرحت القولين دون استنكار، ولو كان فيهما شيء من الباطل لكان من المناسب أن تشير إليه وتدل على بطلانه بقرينة ما، وتقريرها للقولين يدل على إمضاء الشريعة لهما، بل إنّها طرحت قول الموحدين بسياق يفيد المدح، وذلك بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المحفوف بالتشكيك، بينما جاء قول الموحدين قاطعاً (لنتّخذنّ) نابعاً من رؤية إيمانية، فليس المطلوب عندهم مجرد البناء، وإنّما المطلوب هو المسجد. وهذا القول يدلّ على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة.

قال الرازي في تفسير (لنتّخذنّ عليه مسجداً) نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد(4).

وقال الشوكاني: ذكر اتخاذ المسجد يُشعر بأنّ هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وقيل: هم أهل السلطان والملوك من القوم المذكورين، فإنهم الذين يغلبون على أمر من عداهم، والأوّل أولى.

قال الزجاجي: هذا يدلّ على أنّه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور، لأن المساجد للمؤمنين(5).

وإذا بقينا نحن والآية فقط فهي تتناول قبور نخبة من الصالحين الذين بلغ علوّ شأنهم حدّاً بحيث أصبحوا موضعاً لعناية القرآن الكريم ومدحه لهم وذكره إيّاهم، وهي تفيد في نتيجتها جواز الصلاة عند قبورهم، وجواز بناء المساجد والمشاهد عليها.

وممّا لا شك فيه أن شأن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، أرفع من شأن أولئك الفتية من النخبة الصالحة، فإذا جازت الصلاة في قبور هؤلاء والبناء عليها، فبالأولى جواز ذلك بالنسبة إلى الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) .


2 ـ قوله تعالى: (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ)(6).

والاستدلال بالآية يتم بعد بيان أمرين:


ألف ـ ما هو معنى ومفهوم الشعائر؟


ب ـ هل أن قبور الأنبياء والأولياء من الشعائر؟ وهل أن تعظيمها والبناء عليها من شعائر الله؟


أما الأمر الأوّل: فالشعائر: جمع شعيرة، قال الشيخ الطبرسي في مجمع البيان: (الشعائر: المعالم للأعمال، وشعائر الله: معالمه التي جعلها مواطن العبادة، وكلّ معلم لعبادة من دعاء أو صلاة أو غيرهما فهو مشعر لتلك العبادة، وواحد الشعائر شعيرة، فشعائر الله أعلام متعبداته، من موقف أو مسعى أو منحر، من شعرت به، أي علمت.


قال الكميت:

نقتلهم جيلاً فجيلاً نراهم***شعائر قربان بهم يتقرب(7)

وقد استخدم القرآن الكريم هذه الكلمة ثلاث مرّات عدا هذه الآية، ففي سورة البقرة، قال تعالى: (إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ)(8)، فبيّن مصداقين من مصاديق الشعائر الإلهية، وفي سورة الحج بيّن مصداقاً آخر، إذ قال سبحانه: (وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ )(9).

وفي سورة المائدة، قال تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الحَرَامَ وَلا الهَدْيَ وَلا القَلائِدَ...)(10).

فيتلخص من ذلك أن القرآن الكريم بيّن في آيتين ثلاثة مصاديق للشعائر الإلهية كلّها مرتبطة بالحج، ونهى في آية أخرى عن الاستخفاف بها، وأمر في آية رابعة بتعظيمها.


وهذه الآيات وإن كانت واردة في الحج إلاّ أنّها مع ذلك لم تطرح مفهوماً خاصاً به، وإنّما طرحت مفهوماً عاماً ينطبق على مصاديق عديدة أشارت تلك الآيات إلى بعضها ممّا له صلة بالحج، ولم تفد أنها مصاديق حصرية لا ينطبق مفهوم الشعائر إلاّ عليها خاصة. بل إنّها على العكس من ذلك اشتملت على ما يفيد عدم الانحصار، فآية الصفا والمروة، قالت إنّهما: (من شعائر الله) وآية البُدن، قالت: (جعلناها لكم من شعائر الله) بما يفيد أن مفهوم الشعائر عام، وأنّ هذه بعض مصاديقها كما هو المستفاد من حرف (من) الدال على التبعيض، كما أنّ آية تعظيم الشعائر تناولتها بما هي مفهوم عام وحثّت على تعظيمها، وهكذا آية (لا تحلّوا شعائر الله...).


قال العلاّمة الطباطبائي: (الشعائر: جمع شعيرة وهي العلامة، وشعائر الله الأعلام التي نصبها الله تعالى لطاعته...)(11).

وقال الفخر الرازي: (وأما شعائر الله فهي أعلام طاعته، وكلّ شيء جعل علماً من أعلام طاعة الله فهو من شعائر الله.. وشعائر الحج معالم نسكه.. ومنه الشعائر في الحرب، وهو العلامة التي يتبيّن بها إحدى الفئتين من الأخرى، والشعائر جمع شعيرة، وهو مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام..)(12).

وقال في مورد آخر:

(واعلم أن الشعائر جمع، والأكثرون على أنها جمع شعيرة. وقال ابن فارس: واحدها شعارة، والشعيرة فعيلة بمعنى مفعلة، والمشعرة المعلمة، والإشعار الإعلام، وكل شيء أشعر فقد أعلم، وكل شيء جعل علماً على شيء أو علم بعلامة جاز أن يسمى شعيرة، فالهدي الذي يهدى إلى مكة يسمى شعائر ، لأنها معلمة بعلامات دالة على كونها هدياً. واختلف المفسرون في المراد بشعائر الله، وفيه قولان:


الأولّ: قوله: (لا تحلّوا شعائر الله) أي لا تخلوا بشيء من شعائر الله وفرائضه التي حدّها لعباده وأوجبها عليهم، وعلى هذا القول فشعائر الله عام في جميع تكاليفه، غير مخصوص بشيء معين، ويقرب منه قول الحسن: شعائر الله دين الله.


والثاني: أن المراد منه شيء خاص من التكاليف، وعلى هذا القول ذكروا وجوهاً: (الأول المراد لا تحلّوا ما حرّم الله عليكم في حال إحرامكم من الصيد.. (والثاني): قال ابن عباس: إن المشركين كانوا يحجّون البيت ويهدون الهدايا ويعظمون الشعائر وينحرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فأنزل الله تعالى: (لا تحلّوا شعائر الله) .


الثالث: قال الفراء: كانت عامّة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج ولا يطوفون بهما، فأنزل الله تعالى: لا تستحلوا ترك شيء من مناسك الحج وائتوا بجميعها على سبيل الكمال والتمام.


الرابع: قال بعضهم: الشعائر هي الهدايا تطعن في أسنامها وتقلّد ليعلم أنها هدي، وهو قول أبي عبيدة، قال: ويدل عليه قوله تعالى: (وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) هذا عندي ضعيف لأنه تعالى ذكر شعائر الله ثمّ عطف عليها الهدي، والمعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه)(13).

فأتّضح أن تخصيص الشعائر بمصاديق محدّدة لا يتّسق مع الشواهد القرآنية، وأنّ سياق الآيات يساعد على كونها مفهوماً عامّاً يقبل الانطباق على كل أمر يكون علامة على الدين ومعلماً من معالمه. هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل.


أما الأمر الثاني: فإنّ الصفا والمروة إن كانت من شعائر الله فمّما لا شكّ فيه أن أمورا أخرى كثيرة يصدق عليها هذا العنوان لكونها من علامات الدين ومعالمه، وليس لنا أن نتوقّع من القرآن الكريم أن يستقصي كل مصاديق هذا العنوان ويطلق على كلّ واحد منها تسمية الشعائر، حتّى يكون الأمر توقيفياً لا نتعداه إلى غيره ممّا يشترك معه في ملاك واحد، بل إنّ القرآن الكريم أشار إلى المفهوم العام للشعائر وحدّد بعض مصاديقه، ولم يدل دليل منه على أن المصاديق المذكورة فيه حصرية توقيفية، وظل المفهوم سارياً في كل مصداق ينطبق عليه، فصح أن تكون الكعبة والمسجد النبوي، وأصول الشريعة من الصوم والصلاة والحج والزكاة، وأعلام الدين ورموزه من الأنبياء والمرسلين(عليهم السلام) من جملة شعائر الله، التي يجب تعظيمها والامتناع عن الاستخفاف بها.

وممّا لاشكّ فيه أن شخص النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) هو من أعظم هذه الشعائر والمعالم، وأ نّه أبرز من يجب تعظيمه منها، ويُلحق به من كان له موقع في الرسالة ومزية في الدين، بحيث يُعد عَلَماً من أعلام الهداية ويكون تعظيمه تعظيماً للدين.

ومادام التعظيم يعود في أصله إلى الدين لا إلى شخص النبي(صلى الله عليه وآله)، فمقتضى ذلك عدم تقييده بظرف معيّن، فيكون التعظيم مطلوباً في زمان حياة النبي(صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته، وممّا لاشك فيه أن تعظيم النبي (صلى الله عليه وآله)الذي هو من أبرز مصاديق تعظيم شعائر الله سبحانه، يكون في زمان ما بعد حياته (صلى الله عليه وآله) بصور متعددة طبقاً لما هو المتعارف بين العُقلاء، كالاحتفال بذكرى مولده الشريف، وصيانة الآثار التاريخية المتعلقة به من خطر الاندثار، والحرص على إبقائها حيّة ماثلة أمام الأجيال المتعاقبة.

ويبدو من بعض الشواهد أنّ الشريعة الإسلامية قد راعت هذا الجانب في بعض أحكامها، كحكمها بلزوم الصلاة على النبي وآله في بعض الموارد، والاستحباب المؤكد في أكثر الموارد، وحكمها بأداء السلام والتحية عليه (صلى الله عليه وآله) في الفصل الأخير من الصلاة، وإلزام المؤمنين بمودّة قرباه، حيث يلاحظ في مجموع هذه الأحكام عدّة عناصر، يأتي في مقدمتها تعظيم النبي (صلى الله عليه وآله) الذي هو من حيث الأصل تعظيم للإسلام والدين وليس تعظيماً لشخص معين.

وحينئذ ، فتعهّد قبر النبي (صلى الله عليه وآله) بالبناء والعمران ونحو ذلك، ممّا يلتئم تمام الالتئام مع الاتجاهات العامة للشريعة الغرّاء في إحياء شعائر الله وتعظيم النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته، وحيث إن شخص النبي (صلى الله عليه وآله) ليس هو العنصر الملحوظ في هذه الاتجاهات، وإنّما العنصر الملحوظ فيها تعظيم شأن الدين والرسالة، وهو عنصر قائم في زمان حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وزمان ما بعد حياته، في النبي وفي سائر أعلام الهداية من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، بل حتّى في الصُلحاء والأولياء والعلماء الأبرار من كل زمان ومكان، لذا فإنّ حكم التعظيم لا يختصّ بشخص النبي ولا بزمان حياته (صلى الله عليه وآله)، المتبادر من إطلاق: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ) وإن كان النبي (صلى الله عليه وآله) ومن بعده أهل بيته هم المصاديق البارزة لذلك.


3 ـ قوله تعالى: (قُلْ لا أسْأ لُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى )(14).

وهذه الآية أوضح من أن تحتاج إلى بيان، فهي تدل على أن محبّة قربى الرسول واجب على الأمة الإسلامية، كوجوب دفع الأجر للعامل على من أسدي له عمل معيّن. وهو وجوب مطلق لم يقيّد بزمان دون آخر، ولا مكان دون مكان، ولا كيفية دون أخرى، ومقتضى ذلك وجوب إبراز هذه المودّة في كل مكان وزمان وبكلّ الكيفيات والأشكال المتعارفة، وممّا لاشكّ فيه أن تعهد قبر شخص ما بالبناء والإعمار والتجديد من جملة المصاديق العرفية لهذه المودّة، بحيث لو أن شخصاً ما لم يظهر طيلة حياته محبّته لآل الرسول (صلى الله عليه وآله) بالأشكال الأخرى، لكان واجباً عليه إظهارها من خلال تأدية هذا الشكل، باعتباره المصداق الذي ستبرأ به ذمّته من عهدة التكليف الشرعي بمحبّة آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، وبهذا يتّضح أن البناء على قبور الأئمة (عليهم السلام)، ليس جائزاً ولا مستحبّاً فقط، وإنّما قد يكون في بعض الحالات واجباً أيضاً.

وهذا سلوك ذائع منتشر بين الأمم والمجتمعات البشرية، أنّهم يعبرون عن وفائهم وولاءهم لقادتهم ومؤسسي حضاراتهم بتشييد الأضرحة على قبورهم، وتعهدها المستمر بالزيارة والعمران والصيانة، وإهداء أكاليل الزهور إليها، وبناء النصب التذكارية لهم.

فيتلخّص من البحث في هذه الآيات الثلاث، أن مسألة البناء على القبور تحضى بدعم قرآني أكيد يتمثّل في ثلاث آيات، ليس هناك ما يناقضها في الدلالة من شواهد القرآن وآياته، مع ملاحظة أن هذه الآيات الثلاث تتناول في دلالتها قبور الأولياء والعظماء ممّن يعدّون رموز الدين ومعالم الرسالة، ولا تشمل سواهم من سائر الناس.

المسألة في ضوء السنّة النبويّة الشريفة:

وإذا جئنا إلى السنّة النبوية وجدناها تنطوي على مجموعة من الآثار تختلف في دلالتها، إلاّ أنّها مع ذلك ليس فيها ما يساعد على القول بحرمة البناء على القبور، وهانحن نستعرض أشهر هذه الآثار ونناقشها واحداً تلو الآخر.

منها: ما روي عن الإمام علي (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان في جنازة فقال: (أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلاّ كسره، ولا قبراً إلاّ سوّاه، ولا صورة إلاّ لطخها؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله ، فانطلق فهاب أهل المدينة فرجع، فقال عليّ: أنا أنطلق يا رسول الله ، قال: فانطلق، ثمّ رجع فقال: يا رسول الله لم أدع بها وثناً إلاّ كسرته ولا قبراً إلاّ سوّيته ولا صورة إلاّ لطختها)(15).

والذي ينظر في هذه الرواية بعين التحقيق يجدها محفوفة بالشكوك من عدة جهات: أهمّها غموض الظرف الزماني أو المكاني للحادثة، فإنّ هذه الحادثة لا تنسجم مع فترة ما قبل الهجرة بحيث يبعث النبي من مكة إلى المدينة من يحطّم الأصنام فيها، لأن الظروف في مكة لم تكن تسمح للنبي (صلى الله عليه وآله)، بتشييع من يموت من المسلمين، والظاهر من الحديث المذكور، أن النبي (صلى الله عليه وآله) تحدث مع أصحابه بلهجة الحاكم الذي يملك قدرة سياسية كافية، بحيث يستطيع فرد مبعوث عنه أن يقوم بعمل من قبيل تحطيم الأصنام وتسوية القبور وتلطيخ الصور في المدينة. فلابد وأن تكون الحادثة قد وقعت في سنوات الهجرة إلى المدينة والإقامة فيها يوم كانت للنبي (صلى الله عليه وآله) دولة وقدرة سياسية نافذة. ولكننا إذا دققنا في الخبر وجدناه لا ينسجم مع هذه الفترة.

فمقتضى الخبر أن الأصنام لازالت موجودة في المدينة، بينما المعروف أن أهل المدينة من الأوس والخزرج قد أسلموا منذ الوهلة الأولى وأن سلطة النبي (صلى الله عليه وآله) كانت متوطدة الأركان فيها، باستثناء ما كان من عمل المنافقين، ولم يعرف عن المنافقين مظاهر وثنية، وحينئذ لا معنى لقول الراوي عن المبعوث الأوّل للنبي (صلى الله عليه وآله) ، انّه هاب أهل المدينة فرجع، فهل كان أهل المدينة على هذا الحد من التمسك بالوثنية، بحيث يهابهم هذا المبعوث النبوي؟ وهل في التاريخ ما يشهد لمثل هذا القول؟ وإذا كانت الحالة بهذه الدرجة فمكافحتها تتطلب عملاً أوسع من جهد شخص واحد، فكيف نتصور أن شخصاً واحداً يُطلب منه أن يقوم بعمل واسع وحسّاس من هذا القبيل؟ وكيف نصدّق أن شخصاً واحداً قد قام بذلك فعلاً ورجع في ساعات قلائل على ما هو الظاهر من الرواية؟ ومن الممكن أن نتصور أن أهل المدينة قد تقبّلوا من المبعوث النبوي تحطيم الأصنام، لكنهم من المستبعد جدّاً أن يتقبلوا منه بهذه السهولة تلطيخ التماثيل والتصرف في قبور آباءهم وأجدادهم.

فهذه مسألة عاطفية حسّاسة لا تذعن لها النفوس إلاّ بعد تمهيد وترويض وإعداد سابق، ومن المألوف جداً أن يحصل فيها في بادئ الأمر إنكار واعتراض، بينما يظهر من كلام الراوي أن المبعوث النبوي قد جاب المدينة وحطّم الأصنام ولطّخ التماثيل وغيّر حالة القبور لوحده في ساعات قلائل دون اعتراض أحد من الناس، خلافاً لما هو المعروف من عدم وجود أصنام في المدينة أيام وجود النبي فيها، وعدم قدرة شخص واحد على القيام بمثل هذا العمل، وعدم كفاية الساعات القلائل لإنجازه، وعدم إذعان النفوس لمثل هذا الأمر بالتصرف في القبور بمثل هذه السهولة والتسليم السريع.

وقد يكون هياب المبعوث الأوّل ونكوله عن الإقدام لأجل هذه الجهة، وهو يشهد لحساسية أهل المدينة تجاه عمل يمس قبور أسلافهم وذويهم، ومقتضى هذا الشاهد أن يواجه المبعوث الثاني شيئاً من اعتراض الناس، وأن يكون عمله مقروناً بشيء من الصخب والضجيج، وأن يراجعوا النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا الأمر بعد ذلك وأن يشتهر الأمر ويذيع بين الرواة والمؤرخين، ولا تنحصر روايته بالإمام علي (عليه السلام) كما في مسند أحمد، وسيأتي الحديث عن رواية مشابهة وردت في مصادر الإمامية لدى دراستنا للمسألة في ضوء نصوص أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

إن الإمام علي (عليه السلام) قد بعث في أيام حكومته في الكوفة أبا الهياج الأسدي، وهو رئيس شرطته، ليقوم بمثل هذه المهمة في الكوفة.

قال أحمد بن حنبل: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن حبيب عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي (عليه السلام): (أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته)(16).

وأبو الهياج الأسدي هو صاحب شرطة الإمام آنذاك، وإيكال المهمة إليه يعني ايكالها إلى قوى مسلّحة كافية، وهذا هو المتناسب مع هذه المهمة.

ومن الطبيعي أن تنتقل التشكيكات من الرواية السابقة إلى رواية أبي الهياج لاعتمادها على تلك، وحيث لم نقبل تلك لتطرق الشك إليها من جهات متعددة، فمن الطبيعي أن لا تقبل رواية أبي الهياج الأسدي المبتنية عليها، لأن الإمام علي (عليه السلام) ربط بين أمره لأبي الهاج بهذه المهمة وبين أمر النبي (صلى الله عليه وآله) له بمثلها في المدينة في حادثة تشييع الجنازة، وما يجري من التشكيك على تلك ينسحب على هذه، إضافة إلى ما يعتري رواية أبي الهياج من ضعف خاص بها، وذلك لثبوت ضعف اثنين من رواته عند أئمة الجرح والتعديل من أهل السنّة، وهما سفيان الثوري وحبيب بن أبي ثابت .

فقد قال الذهبي عن سفيان: أ نّه كان يدلِّس عن الضعفاء(17).

وقال ابن حجر: قال ابن المبارك: حدّث سفيان بحديث فجئته وهو يدلّس، فلمّا رآني استحيى وقال: نرويه عنك؟(18)

وقال في ترجمة يحيى بن سعيد بن فروخ: قال أبو بكر وسمعت يحيى يقول: جهد الثوري أن يدلّس عليّ رجلاً ضعيفاً فما أمكنه(19).

والتدليس هو أن يروي عن رجل لم يلقه وبينهما واسطة فلا يذكر الواسطة.

وقال أيضاً في ترجمة سفيان: قال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: لم يلق سفيان أبا بكر بن حفص ولا حيان بن إياس، ولم يسمع من سعيد بن أبي البردة، وقال البغوي: لم يسمع من يزيد الرقاشي، وقال أحمد: لم يسمع من سلمة بن كهيل حديث المسائية(20) يضع ماله حيث يشاء، ولم يسمع من خالد بن سلمة بتاتاً ولا من ابن عون إلاّ حديثاً واحداً(21).

وهذا تصريح من ابن حجر بكون الرجل مُدلّساً، ربّما يروي عن أناس يوهم أنّه لقيهم ولم يلقَهُم ولم يسمع منهم.

أما حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار، فقد قال ابن حبّان عنه أنّه: كان مدلّساً، وقال العقيلي: غمزه ابن عون، وقال القطّان: له غير حديث عن عطاء، لا يُتابع عليه وليست محفوظة. وقال ابن خزيمة في صحيحه: كان مدلّساً(22). وقال ابن حجر أيضاً في موضع آخر: كان كثير الإرسال والتدليس، مات سنة (119 هـ ).

ونقل عن كتاب الموضوعات لابن الجوزي من نسخة بخطّ المنذري أنّه نقل فيه حديثاً عن أُبيّ بن كعب في قول جبرائيل: لو جلست معك مثلما جلس نوح في قومه ما بلغت فضائل عمر، وقال: لم يُعِلْه ابن الجوزي إلاّ بعبد الله بن عمّار الأسلمي شيخ حبيب بن أبي ثابت(23).

هذا ما ورد في كتب الرجال في جرح اثنين من رواة الحديث، أما أبو وائل الأسدي شقيق ابن سلمة الكوفي، فقد كان منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب، قال ابن حجر: قيل لأبي وائل: أيّهما أحبُّ إليك عليّ أم عثمان؟ قال: كان عليّ أحبّ إليّ ثمّ صار عثمان(24).

ويكفي في قدحه أنّه كان من ولاة عبيد الله بن زياد، قال ابن أبي الحديد: قال أبو وائل: استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة.

هذا كلّه حول سند الرواية وهؤلاء رواتها، ولو ورد فيهم مدح فقد ورد فيهم الذم أيضاً، وعند التعارض يقدم الجارح على المادح فيسقط الحديث عن الاستدلال.

ويكفي أيضاً في ضعف الحديث أنّه ليس لراويه أعني أبا الهياج في الصحاح والمساند حديث غير هذا، فكيف يستدلّ بحديث يشتمل على المدلّسين والمضعّفين؟

وغاية ما تدلّ عليه هاتان الروايتان لزوم تسوية القبور، ولا تدلاّن على منع بناء الأضرحة والقباب عليها، ولو قلنا بدلالتهما على لزوم تسوية القبور مع الأرض لكان ذلك مما يتنافى مع سيرة المسلمين منذ الصدر الأوّل، كما سيأتي توضيحه، وحتّى اليوم، باستثناء ما جاء به ابن تيمية وأتباعه في القرن الثامن الهجري وما بعده، وسيأتي أن المذاهب الأربعة لأهل السنّة لا تقول بما يقوله ابن تيمية من لزوم تسوية القبور بالأرض، بل ترى استحباب ارتفاع تراب القبر بمقدار شبر عن الأرض(25).

وكل ذلك يدعونا إلى حمل الحديثين المذكورين على معنى محتمل آخر غير التسوية مع الأرض، وهو التسوية بمعنى التسطيح في مقابل التسنيم، ولذا قال القرطبي معلقاً على الحديث:

(قال علماؤنا: ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة، وقد قال به بعض أهل العلم، وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله)، وقبر صاحبيه رضي الله عنهما على ما ذكر مالك في الموطأ وقبر أبينا آدم(عليه السلام) على ما رواه الدارقطني)(26).

وحينئذ ، فعلى فرض صحة الحديثين وثبوت نسبتهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله) لابد من تأويلهما تأويلاً يتناسب مع السيرة القطعية للمسلمين منذ أيام النبي (صلى الله عليه وآله) في المدينة وحتّى أيامنا هذه، ولو وجب علينا العمل بكلام السلفية لكان أوّل ما يجب القيام به هدم قبر النبي (صلى الله عليه وآله) وصاحبيه، والتسطيح هو التأويل المناسب الذي ركن إليه كثير من علماء المذاهب الأربعة كما سيأتي.

يتبع...






التوقيع :

رد مع اقتباس