عرض مشاركة واحدة
قديم 10-11-2015, 06:35 AM   رقم المشاركة : 1
صلاتي حياتي
(مشرفة منتدى الإمام الحسين عليه السلام)

الملف الشخصي




الحالة
صلاتي حياتي غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي الم.. ذلك الحسين (رواية)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم


الم.. ذلك الحسين (رواية)


الكلاب تنهش جسده بقسوة.. كلاب لم يَرَها من قبل.. متوحشة.. ملوّثة بكل القذارات.. يَنزّ من أنيابها الصديد. يحاول دفعها ولكن لا جدوى. إنها مسعورة وتزداد ضراوة وقسوة. وأشدّها كان الأبقع. إنه يطلب العُنق.. يندفع بوحشية لينقضّ على الرقبة الناصعة.. كإبريق فضة.
ـ آه .. آه.. ماء .. ماء.. قلبي يتفطّر عطشاً.
انتبه من نومه... جفّف حبّاتِ عَرَقٍ كانت تتلألأ في ضوء القمر.
تقابل الوجهان.. وجه القمر، ووجهه.
تأمّل الحسين النجوم في أغوارها البعيدة.
البريق القادم من الأعماق السحيقة يشتدّ لمعاناً.. يومض.. يحاول كشف الأسرار.
نهض السبط من فراشه.. أسبغ وضوءه.. أشاعت برودة الماء السلام في روحه. لقد مضى من الليل ثلثاه، وليس هناك ما يخدش صمت الليل سوى نباح كلاب بعيدة.
حمل جراباً مليئاً بالطعام، وكيساً يغصّ بصرار الدراهم الفضية والدنانير، وراح يجوس أزقّة المدينة.
اجتاز بعض المنعطفات.. توقّف أمام بيت يكاد يتهدّم. أحكم لثامه، فبدا كشبح من أشباح الليل، أو سرّ من أسراره. وضع قدراً من السمن، وشيئاً من الدقيق، وأسقط ـ من كوّة صغيرة ـ صرّة نقود، ثم طرق الباب، وحثّ الخطى ـ قبل أن تنفتح ـ داخل زقاق غارق في الظلام..
كانت تنبعث من كوّة بيت كبير أضواء ساطعة.. وسمع ضحكة ماجنة أعقبتها ضحكات. استعاذ بالله، وهو ينعطف نحو اليمين. صار قريباً من قصر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ حاكم المدينة.
منظر القصر المنيف، والبيوت الطينية التي تحيطه من كل الجهات يعبّر عن الظلم الفادح في توزع الثروات؛ الفقر الى جانب الغنى.. البؤس الى جانب الترف والبذخ..
ـ اين انت يا رسول الله؟!.. هلّم لتشاهد ما يفعل طلقاؤك.. في مدينتك.. أين أنت يا جدّاه ؟..
الليل ما يزال يغمر المدينة بظلمة حالكة يحيطها بالاسرار؛ والنجوم ما تزال مسمّرة في صفحة السماء؛ والقمر يختفي خلف الرُّبى والتلال، فيزداد الظلام رهبة. كراهبة ترفل بحلّتها السوداء بدت المدينة تلك الليلة.
توقّف الرجل الأسمر ذوالعينين المتألّقتين والانف الاشمّ. وقف الى جانب النخلة الّتي غرسها جدّه النّبي وتذكّر حديثه: أكرِموا عمتكم النخلة. لقد شاخت كثيراً، ولكنها ما تزال تهَب الرطب والتمر والضلال. أسند جذعه الى جذعها.. أضحيا جذعاً واحداً.. انبثق نبع من الصلاة، وغمر رشاش الكلمات السماوية المكان.. وصلّى الحسين ركعتين.. ثمّ انطلق نحو النبيّ.
الذاكرة ما تزال تتألق بصور الطفولة.. الحسين بسنواته السبع يركض نحو جدّه العظيم.. يرتمي في أحضان النبوّة وعبق الوحي، وابتسامات الملائكة تغمر دنياه. وتتلاحق الصور.. تشتعل وتنطفئ كبروق سماوية.
ألقى الرجل الذي ذرّف على الخمسين بنفسه على القبر. شعر بدفء الاحضان. احتضن التربة الطاهرة، وراح يستنشق.. يملأ صدره بشذى السماء. شعر بأنّه يقبّل وجه جدّه.. يمسّد شعره المتموّج تموّج الصحارى، ويداعب سوالفه الملألئة. وشعر أنه يعانق آدم وابراهيم، ويحتضن الكون كلّه.
ـ يا جدّاه، انهم يريدون مني شيئاً عظيماً.. تكاد له السماوات يتفطّرن وتنشقّ الارض. يريدون لِقمم الجبال أن تغادر اماكنها الشماء الى الهاوية، وللسحب أن تدع السماء، وللنخيل أن تنحني.. انهم يريدن للحسين أن يبايع.. يبايع يزيد..
أغمض الحسين عينيه المتعبتين، فانبثق شلاّل من نور محمّد.. وجه يتلألأ كالبدر، ترفرف حوله أجنحة الملائكة مثنى وثلاث ورباع.
ـ حبيبي يا حسين.. إن اباك وامك واخاك قدموا علَيّ.. انهم مشتاقون اليك، فهلمّ إلينا.
ـ لاحاجة بي الى الدنبا، فخذني اليك يا أبتي.
ـ والشهادة يا بني.. الدنيا كلّها تحتاج شهادتك.
وانتبه الحسين على أنفاس الصبح، فودّع جدّه وقفل عائداً الى منزله. الرؤيا تتجسّد امام عينيه، حتّى كاد يلمس غصناً من سدرة المنتهى. نور سماويّ في أعماقه.. ونداء يتردد في صدره.. يدعوه الى الرحيل. لقد أزفت الساعة.. والنوق في الصحارى رفعت رؤوسها تترقب انتظام القافلة.


* * *

ما لها المدينة خائفة هكذا، بيوتها ترتجف، وجدرانها تهتزّ رعباً ؟.. أين مجد الكوفة الضائع؟.. أين هيبتها القديمة ؟.. أم تراها نسيت أنها كانت العاصمة ؟!
تساءل الرجل الغريب ـ الذي كانت تحفّه الألوف قبل ليلة.. أمّا الآن فهو يجوس أزقّة المدينة خائفاً يترقب.. ليس معه من يدلّه على الطريق..
هل تراه أخفق في مهمته.. انه سفير الحسين الى الكوفة عاصمة المجد الغابر. أين الرجال الذين بايعوه على الثورة ؟!.. أين كل تلك السيوف والدروع، وتلك الكمات الّتي تشبه بوارق الفضاء ودويّ الرعود؟!.
كيف تحوّل جيش ناهز العشرين ألفاً الى فئران خائفة تختبئ مذعورة في جحور.. منقوبة في الأرض؟.
فكّر أن ينادي بأعلى صوته: «يا منصور أمت»؛ شعار الثورة.. ذكريات بدر.. علّهم يلتفّون حوله من جديد.. علّهم يهبّون لحصار قصر الظلم مرّة أخرى. ولكنّ من تركوه في وضح النهار، كيف يعودون اليه في قلب الظلام. الّذين فرّوا في ضوء الشمس، هل يعودون في غمرة الليل؟
كان مسلم بن عقيل يسير.. ينقل خطىً واهنة. تداعت أمامه كل الصور المثيرة، وهو يعبر الصحراء مع دليلَيه.. الرمال المتموّجة القاحلة حيث لا ماء.. ولا حياة.. ولا شيء، سوى الذرات الملتهبة.. الظمأ.. التيه..
مات الدليلان عطشاً، أمّا هو فبقي يواصل سيره وحيداً. أراد أن يعود من حيث أتى.. ولكن الحسين كان يريد له المسير حتى النهاية. انه سفيره الى الكوفة.. الكوفة.. الّتي تريد استرداد مجدها الضائع.. الكوفة الّتي تتلهف لرؤية علي بن أبي طالب مرّة أخرى.. تنشد عدله.. رحمته.. رفقه بالفقراء والمساكين.. تريد أن تطرب على بلاغته من جديد.. تريد للمنبر المهجور أن يتدفّق علماً وفصاحة.
تلك احلام الرجال الفئران تحلم في جحورها وترتجف ذغراً.
الاحلام الوردية تحتاج سواعد بقوّة الحديد أو أشدّ بأساً.
«السفير» أعياه التعب.. كقائد مخذول كان يجرجر نفسه بعناء.. يحسّ مرارة الهزيمة.. أمان جيش وهمي. حقّ له أن يندهش كيف تشتّت جيشه الكبير امام شائعة كاذبة!.. أمام جيش سوف يصل من الشام.. جيش وهمي.. صنعه الخيال المريض.. الخيال الذي يحلم بعقل فأرة مذعورة مِن القط.. مِن اسمه فقط.
جلس الغريب عند باب عتيقة، وراح يلتقط أنفاسه كأنه ما يزال يخترق الصحراء.. يجوب الأودية.
فتحت «طوعة» ـ المرأة العجوز التي كانت تنتظر عوده ابنها؛ والابن ذهب يبحث عن الرجل الجائزة.
ـ هل لي في جرعة من الماء ؟
وما أسرع أن عادت المرأة تحمل اليه الماء.. فراح يعبّ منه، ثمّ سكب الباقي على صدره. اراد ان يطفئ لهيب الصحراء في أعماقه.
قالت العجوز مستنكرة جلوسه:
ـ ألم تشرب يا عبدالله ؟!.. قم فانصرف الى أهلك.
اعتصَم بالصمت.. الصمت المجهول الذي لا يريد أن يسبر غوره أحد.
ـ قم عافاك الله.. فانه لا يجدر بك الجلوس على بابي.
ـ وماذا افعل.. لقد ضللت الطريق.. وليس هناك من يدلّني.
قالت المرأة متوجسة:
ـ من تكون يا عبدالله ؟!
ـ أنا مسلم بن عقيل.
فهتفت المرأة مأخوذة بالمفاجأة:
ـ أنت مسلم؟!.. انهض اذن انهض.
ـ الى اين يا أمة الله ؟
ـ الى بيتي..
وانفتح باب في الأفق المظلم.. كوّة تفضي الى النور.. لحظة من أمل.. قطرة ماء في لهب الصحراء.
واحتضن بيت كوفيّ « مسلمَ بن عقيل » ـ الرجل الشريد. امّا بقية البيوت فقد كانت تصغي برعب الى حوافر الخيل وهي تدكّ الارض بحثاً عن رجل غريب.



اللهم صل على محمد وآل محمد الأوصياء الراضين المرضيين بأفضل صلواتك وبارك عليهم بأفضل بركاتك
والسلام عليهم وعلى أرواحهم وأجسادهم ورحمة الله وبركاته



يتبع ...










رد مع اقتباس