العودة   منتديات أبو الفضل العباس عليه السلام > ¤©§][§©¤][ المنتديات الإداريه ][¤©§][§©¤ > أرشيف أبو الفضل العباس (ع)
 
 

إضافة رد
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-29-2010, 08:30 PM   رقم المشاركة : 1
فدك الزهراء
زائر
الملف الشخصي





 

7 ارجوكم ساعدوني

السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة

اعضاء منتدى ابوفاضل العباس علية السلام
ممكن تساعدوني ضروري
ابي بحث عن الفكر التربوي عند الامام علي عليه السلام في كتاب نهج البلاغه

والله تعبت وانا ادور وكل المواقع الي تتكلام عن هذا الموضوع محجوبة عندي من قبل

الوهابيون

فاتكفون الي يعرف يساعدني

لان انا بسوي بحث

وجزاكم الله الف خير






رد مع اقتباس
قديم 03-29-2010, 09:05 PM   رقم المشاركة : 2
بائع الرمان
( عضوفضي )
 
الصورة الرمزية بائع الرمان
الملف الشخصي





الحالة
بائع الرمان غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي رد: ارجوكم ساعدوني

ممكن هذا يساعدك

7
7
7
7
7



الفكر التربوي عند أمير المؤمنين علي (عليه السلام)
الحديث عن أمير المؤمنين علي (ع) ليس بذلك الأمر اليسير ، ولا يمكن الوقوف عند كل مرتكزات حياته (ع) في كتاب واحد ، بصفحاته المعدودة ، فعلي يكبر دائما على أي تطور معرفي يحصل بتقادم الزمن ، وتوسع الفكر المعرفي عند الانسان ، فان كانت الحدود المعرفية في الصدر الاول للاسلام اطاراتها محددة ، فان بعض من عاشوا ذلك الزمن كانوا يحملون خصوصية معينه ، لها صفة تقادمية مستمرة ، فلم تقف عند حدود ذلك الزمن بل تجاوزته الى ازماننا التي نعيشها ، او تلك الازمان القادمة . الرسول (ص) وعلي (ع) هم من كانوا يحملون تلك الخصوصية المعرفية في ذلك الزمن ، فان كان الرسول (ص) لا يعرفه الا الله وعلي (ع) ، فعلي (ع) كذلك لا يعرفه الا الله ورسوله . ولهذا نجد ان الكثير من العلوم الحديثة التطبيقية منها والنظرية ، اشار ليها علي (ع) بل وتحدث عنها باسهاب . ومن هذه العلوم والموضوعات الحديثة والتي شهدت تطور كبير ، واهتمام بالغ من العلماء والمفكرين في هذا الوقت ، موضوع ( التربية ) ، فقد اخذ اهتمام بالغ من علماء دين ، وعلماء النفس والانسان ، وعلماء الاجتماع وكذلك الاقتصاديين والسياسيين ، لما يمثله هذا الموضوع من اهمية كبرى في حياتنا اليومية . ومن هنا سنقف عند الفكر التربوي عند أمير المتكلمين علي (ع) .

قبل البدء ....
التربية في مفهوم اهل البيت (ع) تاخذ صفة مميزة جدا ، فهي لا تعني ذلك المفهوم الضيق من التربية ، والذي يعني الاهتمام بتأديب الابناء منذ الصغر فحسب ، بل يأخذ مساحات أوسع مدارك اكبر من ذلك ، فأهل البيت يسعون دائما الى ايجاد ثورة اصلاحية في المجتمع تبدأ بالصغير والضعيف ، وتنتهي بالكبير والقوي ، ولهذا سنجد في وصايا الامام علي (ع) الى ابنه الحسن (ع) نموذج تربوي من أب الى ابنه ، كما ان وصاياه (ع) الى مالك الاشتر حينما ولاه مصر ، نموذج تربوي اخر للحاكم مع رعيته .

التربية و الثقافة ، مفهومان يسيران في اتجاه واحد ، ولا يمكن ان يكون احدهما بدون الاخر ، فاذا كانت التربية تاخذ مفهوم الاصلاح والتاديب ، فهي كذلك وسيلة لنقل ثقافة المجتمع وانتاجاته من جيل لاخر . فالثقافة تمثل الهوية او كما يقال البطاقة الشخصية لاي فرد ، فمن خلالها ستعرف – هذا الفرد او ذاك - لاي مجتمع ينتمي ، ومن أي ثقافة ينحدر . ولكن ما هو مفهوم الثقافة ؟ وما هو دور التربية في نقل الثقافة ؟
الثقافة كما اشرنا سابقا هي الهوية الاجتماعية لكل مجتمع ، فيعرف مالك بن نبي الثقافة ،" على انها مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته ... " وهناك من يعرف الثقافة على انها " كل ما انتجه المجتمع من ماديات ومعنويات " . ومن المهم ان نعرف ان الثقافة تشتمل على ثوابت معينه ، ومتغيرات معينه . الدين واللغة ...الخ ، تعتبر ثوابت ثقافية في كل مجتمع لا يمكن ان تتغير بسهولة ، بينما الملبس وطريقة الاكل وبعض العادات الاجتماعية ... الخ هي متغيرات ، تختلف من زمان لاخر في نفس المجتمع . ومن هنا سنجد ان الامام (ع) سيوصي بان ليس كل الارث الثقافي للمجتمع صالح لتربية النشئ ، فكان ينادي بان ينقى ذلك الارث وينقل للابناء بدون تلك الشوائب ، فيقول (ع) لابنه الحسن (ع) "ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم مثل الذي التبس عليهم ، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إليّ من إسلامك إلى أمر قد لا آمن عليك به الهلكة ورجوت أن يوفقك الله لرشدك ، وأن يهديك لقصدك "وكذلك كان ينادي (ع) بان الانسان يجب ان يتخلص من تبعيته لغيره ، ويعتمد على ذاته ، ليحقق هو نفسه وذاته من خلال ما يقوم به حين يقول (ع) " عباد الله زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وحاسبوها قبل أن تحاسبوا " ، وهنا نجد ان الامام (ع) يشير الى ان الانسان هو من يمثل نفسه وذاته ، ولن يحاسب غيره على ما جنت نفسه .
واما عن دور التربية فهو يتمثل في ثلاث نقاط اساسية ، الاولى هو نقل ثقافة المجتمع للابناء . اما الثانية فيتمثل في تنقيح وتعديل بعض ما شاب في الثقافة ، والاخيرة او نقل الجديد والتحفيز عليه ، ذلك الجديد الجيد . ولهذا فدور التربية ( بكل ادوارها المجتمعية او المدرسية الحديثة ) مهم جدا في اعداد الابناء الصالحين والمجتمع السوي .


الاباء والابناء ...
من الجدليات التاريخية التي كثر فيها البحث والدراسة هي جدلية الاباء في علاقتهم مع الابناء . واهتمت الاديان السماوية بهذه العلاقة في كونها الاساس الأول في المجتمع . ولقد اهتم الاسلام بشكل كبير بهذه الجدلية ، في مواضع عدة في القران الكريم وفي الاحاديث النبوية الشريفة . لما لهذه الجدلية من اثر بالغ في بناء المجتمع وتقوية صفوفه ورصها ببعض . وما تعانيه المجتمعات الغربية من تخلخل واضح في موازين القوى الاجتماعية الا نتيجة لتخلخل العلاقة ضمن هذه الجدلية . ولهذا الاسلام كان يحرص بشكل كبير على توجيه و ارشاد الاباء والابناء معا في سبيل بناء جيد للاسرة ومن ثم المجتمع . وفي هذا الاطار سنجد ان العملية في فكر الامام علي (ع) تبدأ منذ اللحظة الاولى للتفكير في الزواج ، حيث يعتبره الحاضن الاساس لنوعية الابن ، فيقول (ع) لاخيه عقيل ، حين اراد الزواج بعد استشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة (ع) " يا عقيل ، اخطب لي امراة ولدتها الفحول . فيجيب عقيل ، ولاي أمر تريد امراة كهذه . فيقول (ع) لتلد لي ابنا شجاعا " . الى هنا سنجد ان اختيار الام مهم جدا في تربية الابناء . وفي قول اخر للامام علي (ع) " اياكم وتزويج الحمقاء فان صحبتها بلاء وولدها ضياع " . ويمكن ان نتسنتج أمر اخر في هذه الاقول ، البيئة عامل مهم جدا في تشكيل الابناء ، ولكن للوراثة دور اكبر في هذا التشكيل .
هناك صفات معينه يتمناها كل اب ان تكون في ابنه فيتمنى ان ينجب له ولدا جميلا حسن الخلقة ، ولكن هذا ليس ضمن القائمة التي اعدها الامام (ع) والتي يسأل الله فيها صفات اخرى لابنه الذي يتمناه فيقول (ع) " والله ما سألت ربي ولداً نضير الوجه ولا سألت ربي ولداً حسن القامة ولكن سألت ربي ولداً مطيعاً لله خائفاً وجلاً منه حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع لله قرت به عيني " اذا اعداد الاب لنفسه لاستقبال ابنه ن واعداد البيت لذلك الاستقبال يحتاج اعدادات خاصة ، من الدعاء والطهارة واشاعة الاجواء الروحانية و الايمانية في المنزل لترسم اول التشكيل الذي يتمناه الاب لابنه .
واذا ما انتقلنا الى حق الابناء على الاباء ، فهي من نوع خاص ، يجب ان نلتفت اليها جيدا حينما نعلم ابناء او دروس الحياة ، فالامام (ع) يقول في هذا الباب " وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ، ويحسن أدبه ، ويعلمه القرآن " هناك اشياء قد نراها صغيرة وغير مؤثرة ولكن في الواقع اثرها كبير جدا ، مثل ذلك اختيار الاسم المناسب للولد . فقد يجد البعض ان الاختيار يكون حسب المزاج الذي يريده الاب او الام ، فيقع اختيارهم على اسم غير مناسب قد يسبب اثار نفسية بالغة في الطفل حتى يكبر . وكذلك يركز الامام علي (ع) بضرورة تاديب الابناء وتربيتهم على احسن وجه منذ سن مبكرة جدا ، فهو من حقوقهم اولا ، وثانيا الابناء في سنينهم الاولى كالطين كما في الامثال ، يمكن تشكيلها بسهولة ويسر فيقول امير المؤمنين عليه السلام " إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك " .
كما انه من المهم اختيار ما يجب ان نزرعه في ابنائنا ، فليس كل ما ورثناه من ثقافات يصلح لابنائنا ، فيجب ان ننتقي ما يصلحهم ويناسبهم فيقول الامام عليه السلام " لا تعودوا بنيكم على أخلاقكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم " .
ونستخلص هنا ان تربية الابناء قد يكون يسيرا سهلا ، يعطي نتائج ايجابية ، اذا ما تمت في وقت مبكرة ، وقد تكون صعبة وسلبية النتائج اذا ما تهاونا في ذلك .


المجتمع .. علاقات انسانية..
حينما يصلح الفرد يصلح المجتمع ، فاذا كانت الاسر عبارة عن مجموعة افراد تربطهم علاقات خاصة ن فان المجتمع مكون من تلك الاسر ومن أولائك الافراد ، وتربطهم علاقات ولكن اقل خصوصية ، وفي ذات الوقت ليست باقل اهمية ، فصلاح المجتمع يعني خلوه من الافساد والمفسدين ، ولا يتأتى هذا الا من خلال ترويض النفس على الخير وترك الشر ، والسعي للاصلاح والصلاح والابتعاد عن الافساد فيقول الامام (ع) لابنه الحسن (ع) " يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك وأكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم ، وأحسن كما تحب أن يُحسن إليك ، واستقبح من نفسك ، ما تستقبحه من غيرك ، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك " . يا أمير المؤمنين لو كل من استمع لقولك هذا عمل به .. لكانت كل المجتمعات بخير ..


التعليم والتعلم ..
اذا كان التعليم عملية يهدف من خلالها اكساب المتعلم سلوك معين ، فان التعلم يكون استجابة لهذا السلوك او ذاك . ولهذا نجد ان الاسلام اولى التعلم اهمية كبيرة جدا واعطاه منزلة خاصة حين نزلت اول اية من القران الكريم ، تخص هذا المعنى ، فان التعلم جزء لا يمكن ان ينفصل عن العملية التربوية ن فقد اشار الامام علي (ع) الى هذه النقطة في اشارات عدة ، فقد قال الرسول (ص) بخصوص الوقت الذي يجب ان يتعلم فيه الابناء " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع " كذلك يشير الامام (ع) الى ان تأديب الابناء يكون منذ سنينهم الاولى لان ذلك يكون اسهل وأيسر ، فحين يقول لابنه الحسن (ع) " إن قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها شئ إلا قبلته ، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك . ويشتغل لبك ، لتستقبل بجد رأيك ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته فتكون قد كفيت مؤونة الطلب وعوفيت من علاج التجربة "
ويطول البحث في هذه النقطة ولكن لقصر المقام .. نكتفي بهذا القدر .


الحاكم في رعيته ..
يذهب الامام (ع) الى ان التربية من الحقوق الاساسية التي يجب ان يؤديها الحاكم الى رعيته ، ويحسن معاملتهم ويحسن اليهم فيقول (ع) في ذلك " إن لي عليكم حقاً ولكم عليّ حق . وأما حقكم فالنصيحة لكم ، وتوفير فيئكم عليكم ، ونعلمكم كيلا تجهلوا ، وتأديبكم كيما تعلموا .. " . كما انه كان يطلب من ولاته على البلدان ان يحسنوا معاملة رعيتهم ، وان يسهروا على راحتهم فيقول في ذلك الى مالك الاشتر " إعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى لبعضها عن بعض ، فمنها جنود الله ، ومنها كتاب العامة والخاصة ، ومنها قضاة العدل ، ومنها عمال الإنصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ، ومنها التجار وأهل الصناعات ، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة ، وكل قد سميّ الله له سهمه ووضع على حده فريضة في كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عهداً منه محفوظاً " ويقول لاحد عماله " أما بعد ، فأقم للناس الحج ، وذكرهم بأيام الله ، واجلس لهم العصرين ، فأفت المستفتي ، وعلِّم الجاهل " نجد ان الامام (ع) قد رسم خطوط عامة لا يمكن تجاوزها في علاقة الحاكم بالمحكوم ، والتي يجب ان يلتزم بها الحاكم ويلتزم بها المحكوم ، وذلك لصلاح الامة .


البحث في هذا الموضوع شيق وطويل ، ويحتاج الى بحث اكبر ، وان تخصص له دراسات منفردة وكتب مختصة ، لحاجة الامة لمثل هذه الابحاث . فنحن لم نغطي الا جزء يسير من هذا الموضوع . نسال من الله التوفيق ومنكم القبول .


عقيل الميرزا
أغسطس 2005- البحرين
__________________
اللهم احملني على عفوك .. ولا تحملني على عدلك


-----------------


منقووووووووول لمساعدتك اختي

ارجوا ان يفيدك في بحثك

تحياتي لك






التوقيع :
[flash=http://dc02.arabsh.com/i/00990/nuyvzbapshks.swf]WIDTH=278 HEIGHT=410[/flash]

رد مع اقتباس
قديم 03-30-2010, 09:10 PM   رقم المشاركة : 3
السوسن
(مراقبة عامة)


 
الصورة الرمزية السوسن
الملف الشخصي





الحالة
السوسن غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي رد: ارجوكم ساعدوني

-مفهوم التربية عند الإمام علي (عليه السلام):
لعل من المفيد أن نستهل هذا الموضوع بتبيان المدلول اللغوي لمفهوم التربية. فالتربية في اللغة مأخوذة من ربى ولده، والصبي يربه، رباه أي أحسن القيام عليه حتى أدرك (1).
فالتربية بمدلولها اللغوي، تعني تعهد الطفل بالرعاية والتغذية المادية والمعنوية حتى يشب. ولقد اهتم الفلاسفة والعلماء بهذا المفهوم، وجهدوا في الكشف عن مضامينه العلمية وأوجدوا له عدداً من التفسيرات التي إن اختلفت في شكلها، فهي متفقة في جوهرها، وسنعرض فيما يلي أقوال بعض المفكرين القدامى والمحدثين، لنرى موقع (النهج) منها.
يقول أفلاطون (427-347ق.م):
(التربية هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال) (2). وهذا يعتمد على الناحية الكمية من التربية، وذلك بمزاولة جميع الأنشطة العقلية والبدنية المؤدية لكمال الفرد.
ويقول أرسطو (384-322ق.م):
(الغرض من التربية هو أن يستطيع الفرد عمل كل ما هو مفيد وضروري في الحرب والسلم، وإن يقوم بما هو نبيل وخير من الأعمال ليصل إلى حالة السعادة) (3). وهذا يهتم بالناحية المهنية من التربية لما فيه منفعة الفرد وسعادته في دنياه.
ويقول جولز سيمون، الفيلسوف الفرنسي (1814-1896م):
(التربية هي الطريقة التي بها يكون العقل عقلاً حراً، ويكون القلب قلباً حراً) (4). وهذا يتم بالنواحي الروحية من التربية. ولعل أوثق تعريفين للتربية هما: ما قاله الغزالي (450-505):
(ومعنى التربية، يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع، ليحسن نباته ويكمل ريعه) (5).
وما قاله جون ديوي: (إنها عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد ثم صب لها في قوالب معينة ـ أي تحويلها إلى عمل اجتماعي مقبول لدى الجماعة) (6).
وهناك تعريفات كثيرة لا مجال لذكرها لعدم الحاجة إليها ـ وهي في أكثرها مشابهة لما سبق ـ وما يهمنا هو استعراض ما مر منها ومقابلتها بما صدر عن الإمام (عليه السلام)، من أفكار تربوية تفسر حقيقة مفهوم التربية.
يرى (عليه السلام) أن الإنسان هو غاية الوجود، ومن أجله خلق الله ما خلق إذ بعد أن خلق تعالى الكون ورتبه أحسن ترتيب، ونظمه أجمل تنظيم، وأتم مرافقه، على أكمل وجه، وجمع فيه ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، أخرج إليه الإنسان، وأسكنه فيه على أن يكون خليفته في أرضه، يحيا في كنفها ويعيش من خيراتها، ويمضي في أقواله وأفعاله ونواياه، ومقاصده، وفق أحكام الله وإرادته مطيعاً، مذعناً، شاكراً، إلا أنه خالف أمر الله، وسلك بوحي من نفسه الأمارة بالسوء، فجذبته الدنيا إليها وحجبت عنه الرؤية السليمة فبات أسير أوهامه وشهواته.
إن ضعف الإنسان أمام إغراء المادة والإيمان بأن الشيطان الذي أغواه في الجنة لن يتوانى عن إغوائه مرة أخرى وهو على الأرض، وبالتالي سوف لن يتمكن من ممارسة الخلافة كما أوجبها الله ما دام ضعيف الحجة، مسلوب الإرادة، قليل الإيمان. هذه الأمور أوجبت أخذه بالتربية والتعليم حتى تستقيم نفسه ويقوى على مقاومة الضلالة والفساد. إلا أن هذه التربية، لا تستند فقط إلى مبادئ نظرية لا صلة بها بالواقع، بل تتخذ منها طريقاً ومنهجاً يعضده العلم والعمل والإيمان بهدف منفعة العباد وخيرهم.
وكثيرة هي الخطب والكلمات التي تضمنها (النهج) وهي تدعو إلى طلب العلم وأخذه من أي مصدر كان، كما وتحث على العمل حتى لا تبقى التربية مجرد نظريات لا فائدة منها في عالم الواقع. لذلك فإن الإمام (عليه السلام) يدعم القول بالعمل وهذا هو الحق الذي يشهد به العمران والتقدم والتطور الحاصل في المجتمعات من ذلك (العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل) (7).. إذ لا خير في علم بلا عمل. ولابد للعارف من أن يكون عاملاً حتى لا يكون علمه حجة عليه.
ولقد أدرك الإمام علي (عليه السلام) هذا الأمر وطبقه على سائر مجريات حياته، يبدو ذلك في حديثه عن العلماء الذين يتعلمون، برأيه ـ لغايات ثلاث (8):
ـ للمراء والجدل.
ـ للاستطاعة والحيل.
ـ للفقه والعمل.
- أما الأول (فإنك تراه ممارياً للرجال في أندية المقال، قد تسربل بالتخشع وتخلى من الورع. فدق الله من هذا حيزومه وقطع منه خيشومه).
- وأما الثاني (فإنه يستطيل على أشباهه من أشكاله، ويتواضع للأغنياء، من دونهم، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله من هذا بصره، ومحى من العلماء أثره).
- وأما الثالث (فتراه ذا كآبة وحزن، قام الليل في حندسه، وانحنى في برنسه، ويعمل ويخشى، فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه).
فليس المهم بنظر الإمام (عليه السلام) كثرة العلوم النظرية، لأنها لا تغني عن السلوك الحسن والسيرة الخيرة، ولا كثرة العلماء، ما دام البعض منهم قد اتخذ العلم وسيلة للهدم، أو أداة للرياء والنفاق، في حين أن البقية الباقية منهم، ممن آمنوا بربهم وخشعوا له، قد اتخذوه للعمل الحر الشريف. فالتربية التي تعتمد الكمية في أساليبها ليست مقبولة ما دامت لا تستند إلى الكيفية والنوعية. إلا أن هذه النوعية لا فائدة منها إذا لم تقترن بالفاعلية فالعلم لا يراد لذاته، بل لأجل التغيير والنمو في شخصية الفرد والمجتمع كما يقول (عليه السلام): (لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكاً، إذا علمتم فاعملوا وإذا تيقنتم فأقدموا) (9).
إلا أن العمل قد يجر الويل على المجتمع، إذا لم يستند إلى أساس روحي خلقي وما نراه اليوم دليلاً على ذلك، فالذرة قد تستعمل للبناء وقد تستعمل للفناء والدمار والذي ينحى بها هذا المنحى أو ذاك، هو الإنسان ذاته الذي اكتشفها، لذلك كانت التربية الروحية الخلقية لابدّ منها في صياغة كيان الفرد وتفكيره وخلقه. ولقد جمع الإسلام بين التربية الدينية والدنيوية بقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (10).
هذه النظرية للتربية التي انفرد بها الإمام علي (عليه السلام) هي أكثر شمولاً وعمقاً من تلك التي أوحت بها التعريفات السالفة الذكر، فبينما نرى أن فلاسفة التربية قد قصروا نشاطها على جانب معين من حياة الفرد (أفلاطون ـ ارسطو ـ جولز سيمون) يتوسع الإمام (عليه السلام) في هذا النشاط ليشمل جميع نواحيه الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والدنيوية كما سنرى فيما بعد وذلك من أجل إيجاد الإنسان الفاضل القريب من الكمال. هذا المضمون نفسه هو الذي أكده كل من (الغزالي) و(جون ديون) ممّا يثبت بأن هذا الكتاب، كان وما يزال في صميم المعرفة التي تحدث عنها الفلاسفة والعلماء في كل عصر وجيل.

- سمات المنهج التربوي العلوي:

ينطلق الإمام (عليه السلام) من مسلمات بديهية على أساسها يضع المنهج في تربية الإنسان وإعداده منها:
1ـ حقيقة الإنسان وطبيعته
سبق في علمنا أن حقيقة الإنسان هي الروح والجسد معاً. ولقد اختلف المتكلمون في هذا الأمر، فقال (العلاف): (إن الإنسان هو الشخص الظاهر المرئي الذي له يدان ورجلان) (11)، أي هو الجسد فقط دون الروح واحتج على ذلك بقوله تعالى: (خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (12). وقال النظام: (الإنسان هو الروح ولكنها مداخلة للبدن.. وإن البدن آفة عليه وحبس وضاغط له) (13) أما (بشر بن المعتمر) فقد وافق الإمام (عليه السلام) على أن (الإنسان جسد وروح وأنهما جميعاً إنسان، وأن الفعال هو الإنسان الذي هو جسد وروح) (14) وقد دمج (النظام) بين الروح والنفس والجسم فقال: (الروح هي جسم وهي النفس) (15) في حين ميز بينهما (العلاف) وقال، (النفس معنى غير الروح) (16) أما (الأصم) فقد اعتبر أن (النفس هي هذا البدن بعينه لا غير، وإنما جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد لحقيقة الشيء، لا على أنها معنى غير البدن) (17).
وحقيقة القول، أن كلا منهما مختلف عن الآخر، فالروح أمر إلهي لا علم لنا به وهو بمثابة القوة التي تبعث الحياة في الجماد. أما النفس، فهي كناية عن طبيعة الإنسان المختلفة باختلاف قواها النفسية. ولقد قسم الإمام علي (عليه السلام) هذه الطبائع النفسية إلى أربعة، لكل منها خمس قوى وخاصيتان، وما أثر عنه في هذا المجال ما نحن بصدد الحديث عنه:
قال كميل: سألت أمير المؤمنين فقلت له: أريد أن تعرفني نفسي.
فقال (عليه السلام): يا كميل، وأي الأنفس تريد أن أعرفك.
قلت: يا مولاي، هل هي إلا نفس واحدة؟
قال (عليه السلام): يا كميل إنما هي أربع: النامية النباتية، والحسية الحيوانية، والناطقة القدسية، والكلية الإلهية، ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان.
فالنامية النباتية لها خمس قوى: جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة ومربية، ولها خاصيتان، الزيادة والنقصان وانبعاثهما من الكبد وهي أشبه الأشياء بنفس الحيوان.
والحسية الحيوانية لها خمس قوى: سمع وبصر وشم وذوق ولمس، ولها خاصيتان، الشهوة والغضب، وانبعاثهما من القلب، وهي أشبه الأشياء بنفس السباع.
والناطقة القدسية: ولها خمس قوى، فكر وذكر وعلم وحلم ونباهة، وليس لها انبعاث، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكية، ولها خاصيتان، النزاهة والحكمة.
والكلية الإلهية ولها خمس قوى: بقاء في فناء، ونعيم في شقاء، وعز في ذل، وغنى في فقر، وصبر في بلاء، ولها خاصيتان، الرضا والتسليم، وهذه هي التي مبدؤها من الله، واليه تعود.
قال الله تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (18) وقال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (19)، والعقل وسط الكل، لكيلا يقول أحدكم شيئاً من الخير والشر إلا بقياس معقول) (20).
وهكذا يقسم (عليه السلام) النفس إلى أربعة أنواع: النباتية، والحيوانية، والناطقة، والإلهية ويرى أن هذه الأخيرة مبدؤها من الله وإليه تعود، بينما تتمحور جميعها حول العقل الذي يسيطر عليها ويشردها إلى طريق الاعتدال، ولولا ذلك لبلغت حد الإفراط والتفريط وكلاهما رذيلة كما قال الإمام علي (عليه السلام): (العقل ملك والخصال رعيته فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها) (21) لهذا جاء التأكيد على ضرورة معرفة النفس لأنها تؤدي إلى معرفة الله، لأن (من عرف نفسه فقد عرف ربه) (22). و(من عجز عن معرفة نفسه، فهو عن معرفة خالقه أعجز) (23).
كما أنه يؤكد على أهمية شأن العقل ويعتبره من المصادر الأساسية للمعرفة، وكل ما يتنافى معه فهو باطل. أما الحواس فهي كاذبة ولا تصلح للرؤية، وإنما الرؤية الحقيقية للعقل: (ليست الرؤية مع الأبصار، فقد تكذب العيون أهلها ولا يغش العقل من استنصحه) (24). ويكفي العقل فضلاً وشرفاً أنه يميز بين الحق والباطل، ويفرق بين الغي والرشاد، لذا كان من أبلج المناهج وأقوم المسالك وأكثر مصادر المعرفة رشداً، وأقله ضلالاً، ومن استرشد بغيره، فقد أخطأ سواء السبيل. يقول (عليه السلام): (من استرشد غير العقل أخطأ منهاج الرأي) (25).
وتنمية القوى العقلية للإنسان لا تكون إلا في طلب العلم، لأن العلم غذاء العقل، به ينشط وقوى على ممارسة الوظائف العقلية لأنه (ليس شيء أحسن من عقل زانه علم) (26) كما يقول الإمام (عليه السلام).
إلا أن الإنسان يجمع إلى حد القوة حد الضعف، فهو القوي بعقله وفعاليته وهو الضعيف الذي (تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة) (27) والإنسان مجمع الأضداد، في داخله تتصارع العواطف والأهواء والغرائز وحياته تعتورها حالات متضادة نتيجة للصراع بين قواه العقلية والعاطفية، فيرتفع إلى المستوى اللائق به بعقله، وينحدر إلى مستوى البهيمية بغرائزه، والتوازن بينهما هو ما يحفظ كيانه ويصون كرامته وإنسانيته كما عبر الإمام (عليه السلام) بقوله: (لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه، وهو القلب، وذلك أن له مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ وإن غاله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمر استلبته الغرّة، وإن أصابته مصيبة فضحة الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع قعدت به الضعة، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد) (28).
أما غرائزه فهي متعددة، ومتلونة تختلف من شخص لآخر بحسب الفطرة التي أرادها الله سبحانه، كما يذكر (عليه السلام) بقوله: (فأقام من الأشياء أودها ونهج حدودها، ولاءم بقدرته بين متضادها، ووصل أسباب قرائنها، وفرقها أجناساً مختلفات في الحدود والأقدار والغرائز والهيئات، بدايا خلائق أحكم صنعها، وفطرها على ما أراد وابتدعها) (29).
هذه الغرائز تتغير بتغير بيئة الإنسان وثقافته، ولا يخفى أثر البيئة القوي في التنشئة والإعداد. فالإنسان يتأثر بالأحوال والظروف المحيطة به فهو ابن بيئته وعوائده كما يقول ابن خلدون، فيكون لذلك شأنه في صياغة أفكاره وأخلاقه وعاداته سلباً أو إيجاباً بحسب ما يكتنفه من أمور تؤثر في مجرى حياته، ونظراً لتعدد البيئات واختلاف مقوماتها وعناصرها الثقافية والاجتماعية والطبيعية فإن لذلك أثره القوي في اختلاف أفراد النوع الإنساني وتباين سماتهم العقلية والبدنية. يقول الإمام (عليه السلام): (إنما فرق بينهم مبادئ طينهم، وذلك أنهم كانوا فلقة من سبخ الأرض وعذبها وحزن تربتها وسهلها فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون، وعلى قدر اختلافهم يتفاوتون) (30).
إن الإمام علي (عليه السلام) يقطع من خلال عرضه للمبادئ التي تحكم طبيعة الإنسان وتبيانه للميول والأهواء والغرائز المتناقضة والمتصارعة، تلك التي تتحكم في نفسه، وتوجه سلوكه وتحدد سماته الخلقية والفكرية، بضرورة أن نأخذ جميع هذه الأمور بعين الاعتبار ونراعي ما يظهر من الفروق الفردية، فيما لو حاولنا حل مشكلات المتعلم النفسية والاجتماعية والتربوية وإعداده للحياة الحرة الفاعلة الفاضلة. ذلك لأن مراعاة هذه الأسباب في العملية التربوية تضفي عليها شيئاً من الرغبة، وتساهم في صلاح المتعلم وحل عقده. في حين إن إكراهه على ما يناقض مزاياه الخلقية والنفسية، إنما هو قتل لشخصيته وهدر لطاقاته ودفعه إلى المشاغبة والنفور، ذلك أن (للقب شهوة وإقبالاً وإدباراً فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فإن القلب إذا أكره عمي) (31) ولا يعني هذا مسايرة رذائل الإنسان وشهواته، وإنما مقاومتها بأسلوب يخلو من العنف والقهر والسمو بها إلى مصاف الخلق النبيل. وسوف نرى أن الإمام علي (عليه السلام) كان يؤكد على التسامي بشهوات الإنسان ورغباته الشريرة واستبدالها بما ترضى عنها الذات والمجتمع.
نستنتج ممّا تقدم، أن هذا الكائن البشري يجمع إلى جانب قوى الخير قوى أخرى تجنح به نحو الشر. وهذا يوصلنا إلى فكرة الخطيئة التي شغلت بها أذهان المفكرين عبر العصور. فقد اعتبرت المسيحية أن الإنسان مذنب ومخطئ بطبعه وأن الشر متأصل في فيه (وليس في استطاعته الوصول إلى النجاة بقوته وجده، وإنما ينال النجاة بالغفران وذلك الغفران تمنحه الكنيسة بطريقة استبدادية محضة) (32).
في الجانب المقابل، مال البعض إلى القول بخيرية هذا الكائن وميله الأصيل إلى الفضيلة والخير. أما الشر الصادر عنه فهو من الوسط الذي يعيش فيه. ومن أبرز القائلين بذلك جان جاك روسو الذي اعتبر أن الطفل يولد خيراً بطبعه، ولكن المجتمع هو الذي يفسده.
وما أثر عن الإمام علي (عليه السلام) كان موقفاً وسطاً بين هؤلاء وأولئك، فالإنسان لا يميل بطبعه إلى الخير أو إلى الشر، لأنه قادر على فعل الخير كقدرته على فعل الشر، ذلك: (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وكذباً وصدقاً) (33). ونوع التربية التي تتعهده بها البيئة التي يعيش فيها، هو الذي يجنح به نحو الخير أو الشر. كذلك فإنه مزود بالغرائز والأعضاء والحواس والجوارح التي تأتمر بأمره وتتأثر بالجو المحيط به، وبقدر تهذيبها وإرشادها يسهل توجيهها الوجهة الصالحة. أما إذا أهملت وتركت وشأنها، فإنها تنحا به نحو الرذيلة والفساد.
ولقد أكد الغزالي قابلية الإنسان للخير والشر بقوله: (... فإن الصبي بجوهره خلق قابلاً للخير والشر جميعاً، وإنما أبواه يميلان به إلى حد الجانبين) واستشهد بقول الرسول الكريم: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) (34).
ولن يؤتي الفكر ثماره إلا إذا استند إلى الخبرة والعمل. فالخبرة هي التي تصقله وتهذبه والعمل هو الذي يخرجه إلى حيز الواقع. ولقد أقام (عليه السلام) نظامه الفكري على هذا الأساس. فربط بين العلم والعمل ودعى إلى استفادة الخبرة من رسالة الإسلام، ومن تدبر أحوال الماضين، واتباع آثارهم واختيار الصالح منها وترك ما لا فائدة منه. وهذا ما عبر عنه الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لولده الحسين (عليه السلام): (أي بني! إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم، قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله وصرفت عنك مجهوله) (35).
وهكذا فالتفكير الذي يتحدث عنه الإمام (عليه السلام) يرفض التقليد إلا في أضيق نطاق وعن الذين يمكن الوثوق بكلامهم وأفكارهم والركون إلى أخلاقهم وسجاياهم. وحتى هؤلاء لم يخرجهم (عليه السلام) من دائرة الاجتهاد، حتى لا يشكلوا ضغطاً فكرياً على الآخرين فهو يؤثر الاجتهاد في كل شيء حتى في الدين. والغاية من ذلك الإقناع لا الإكراه بهدف إيجاد المفكر الذي يحاول أن يتفهم دينه ودنياه بوحي من بصيرته. لذا فهو يدعو إلى إعمال الفكر في كل خطوة نخطوها وفي كل رأي نبديه ونعلنه، بل وفي كل خبر نسمعه حتى نتجنب الخطأ والعذر في كل ما يصدر عنا من آراء فالتفكير المستند إلى التركيز والانتباه هو ما يعبر عنه الإمام (عليه السلام) فيقول: (اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل) (36).
تلك هي أبرز سمات المنهج التربوي في (نهج البلاغة) فهي تنطلق من مفهوم شامل للتربية تتناول الإنسان بمختلف أبعاده وتنظر إليه كوحدة متكاملة تبرز حقيقته وطبيعته التي فطره الله عليها وتظهر ما فيه من غرائز وقوى تتراوح بين القوة والضعف وما للبيئة من أثر في تحديدها وتنوعها.

2ـ المعرفة: طبيعتها، مصدرها
المقصود بالمعرفة هو بعمومها وأنواعها المتعددة، العلمية والبديهية والميتافيزيقية، وهي تتضمن دائماً الإشارة إلى عنصرين متكاملين: الذات والموضوع، أي الذات العارفة والشيء المعروف.
لقد اختلفت الآراء حول طبيعة المعرفة وسببها. فقال العقليون الذين يؤمنون بقوة غير حسية، قادرة على إدراك ماهيات الأشياء أو المعقولات وهي العقل (إن تلك الماهيات أو المعقولات التي في أذهاننا، ليست إلا نماذج مماثلة تماماً لما في خارج الذهن من أشياء، أو صورة مطابقة لها، وهذا ما يعبر عنه الفلاسفة بقولهم إن الحقيقة هنا هي نسخة لما في خارج الذهن) (37). هذا يعني أن المعرفة ليست سوى مجرد تصورات ذهنية مطابقة لما في خارج الذهن ولا علاقة لها بالحياة. لقد ظهر هذا المذهب عند كل السقراطيين واستمر حتى بداية الفلسفة الحديثة وهو متعدد من حيث تفاصيله ولكنه واحد من حيث المبدأ. وقد قام محل الحواس التي اعتبرها أداة وهم تقف في طريق المعرفة الحقيقية. يقول (مالبرنش): (إن نماذجكم الحسية ليست إلا ظلاماً فاذكروا هذا وارقوا إلى أعلى حيث العقل وسترون النور. ألزموا حواسكم وخيالكم وانفعالاتكم بالصمت، وستسمعون حينئذ صوت الحقيقة الباطنية النقي، وإجابات عقلنا المشترك الجلية الواضحة، إياكم أن تخلطوا هذه البينة التي تنجم عن المقارنة بين الأفكار، بحيوية المشاعر التي تتحرك وتمسكم. يجب علينا أن نتبع العقل رغم تلطفات البدن الذي نلتصق به، ورغم تهديداته وإهاناته، ورغم تأثير الموضوعات التي تحيط بنا.. إنني لأهيب بكما أن تقروا بأن ثمة فارقاً بين أن نعرف وأن نحس بين أفكارنا الواضحة وإحساساتنا الغامضة المختلطة على الدوام (38).
وقال العمليون ـ المعبر عنهم في العصر الحديث (بالبرجماتيين) Pragmatism في مذهبهم الذي يمزج الفكر بالحياة، إن غاية المعرفة هي الحياة وإن قيمة كل فكرة أو نظرية تقاس بمدى ما تحققه من نفع، حين نطبقها في حل المشكلات التي تواجهنا (ولذلك فلكي نستوثق من قدر نظرية من النظريات نحاول أن نتخيل أنها مطبقة فعلاً في العمل حتى يتسنى لنا رؤية ما عسى أن يكون هنالك من نتائج لتطبيقها، ونحتفي بها على قدر ما تأتي من نتائج عملية خالصة) (39).
إن معيار حقيقة الفكرة عند العقليين، هو مطابقتها للواقع أي لما هو خارج الفكر. هذه المطابقة تجعل من الحقيقة واضحة وثابتة، أما في المذهب العملي فإن الفكرة لا توصف بالحقيقة لمطابقتها للواقع، بل لكونها تؤدي عملاً نافعاً، أي بالنظر لنتائجها وغاياتها العملية. وباختصار فإن المذهب الأول يقول بأننا نعيش لنفكر أما الآخر فيقول بأننا نفكر لنعيش.
إن ربط الفكر بالعمل يتضمن انقلاباً في نظرية المعرفة، فبدلاً من النظر في الأصول البعيدة للحقيقة، كما كانت تفعل الفلسفات المجردة، فإن الفلسفات العملية حولت النظر إلى النتائج والغايات العملية، وجعلت قيمة الحقيقة بما تؤديه من نتائج عملية ونفعية.
هذا الانقلاب الذي أحدثه المذهب العملي كان الإمام (عليه السلام) قد طرحه كأحد المسلمات التي لابدّ منها لحياة أفضل. فالمعرفة القائمة على التصورات فقط لا قيمة لها بل يصنفها في عداد المعارف الوضعية التي لا يترتب عليها أدنى منفعة. في حين أن المعرفة التي تظهر في أعمال تنفع البشر وتؤدي لهم خدمات مفيدة هي التي يقول بها ويضعها في مستوى المعارف الرفيعة. فصفة الحقيقة فيه ليست ملازمة للفكرة كفكرة وإنما هي تكتسبها بما تحققه من عمل نافع. والواقع ينطق بذلك، إذ ما قيمة قوانين (نيوتن) مثلاً لو لم تقدم خدمات عملية على أرض الواقع بتفسيرها حركة الأجسام هذا الربط عبّر عنه الإمام (عليه السلام) يقول: (فإن خير القول ما نفع، واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع) (40). و(أوضع العلم ما وقف على اللسان، وارفعه ما ظهر في الجوارح والأركان) (41).
وهكذا يكون كتاب (النهج) في صميم الفلسفة الحديثة التي قرنت الفكر بالعمل ممّا أتاح للبشرية فرصة سانحة للسير في طريق التقدم والعمران.
أما عن مصدر المعرفة، فقد وقع فيه اختلاف كالذي حصل في طبيعة المعرفة.
إن المشكلة في الفلسفة الحديثة ليست إمكان الوصول إلى الحقيقة أو عدم إمكانها وإنما أصبحت تدور في أصل الحقيقة ومنبعها، أهو العقل أم الحس والتجربة، أو هما معاً، أم الحدس أم الوحي؟
لقد تعددت آراء الفلاسفة حول الطريقة التي تحصل بها المعرفة فديكارت (1596-1650م) يعترف بأن لا سبيل إلى الوصول إلى الحقيقة إلا بممارسة أفعال العقل الطبيعية.. ولتلك الغاية ليس هناك إلا فعلان أحدهما الحدس intuition أو النظر المباشر، والآخر الاستدلال Deduction. (42)
أما جون لوك (1632-1704م) (فقد أعلن بهدوء أن جميع أنواع المعرفة تأتينا من التجارب عن طريق حواسنا، وأن لا شيء في العقل سوى ما تنقله له الحواس) (43) في حين أن (عمانوئيل كانت) جمع بين العقل والتجربة في الحصول على المعرفة وكان يقول: (إن التجربة ليست الميدان الوحيد التي تحدد فهمنا، لذلك فهي لا تقدم لنا إطلاقاً حقائق عامة، وبذلك فهي تثير عقلنا المهتم بهذا النوع من المعرفة بدل أن تقنعه وترضيه) (44).
وخرج (هنري برجسون) (ولد سنة 1859م) عما اعتبره (كانت) مصدراً للمعرفة، وقال بأن: (العقل ليس هو الأداة الصالحة لإدراك الحياة، لأن هذا مطلب فوق مقدوره.. فالعقل والحواس آلات للتجزئة، والغاية منهما تيسير الحياة لا تصوير الوجود أي أنها تتناول الوجود في ظاهره، ولكنها لا تنفذ إلى باطنه. ولما كانت المعرفة الحقيقية هي التي تتمشى مع الوجود في تحوله، وتغلغل في بواطن الأشياء وتحسها إحساساً مباشراً كما يحس الحمل الوديع وجوب الفرار من غائلة الذئاب، فالبصيرة وحدها هي الأداة الصالحة لذلك النوع من المعرفة المباشرة لأنها حاسة الحياة التي تنقل إلينا الوحدة الحيوية التي تربط أجزاء الوجود) (45).
أين كان موقع الإمام علي (عليه السلام) من هذه الآراء؟
إن الإمام (عليه السلام) يعتبر أن مبادئ الوجود ثلاثة: الله والروح والمادة، وعليه فطرق المعرفة تتعدد بتعدد الموجودات الثلاثة. فبالحواس ندرك الظواهر الخارجية والجزئيات، إلا أنها لا تصلح للرؤية الحقيقية لأنها كاذبة كما سبق في علمنا فلابدّ من إثباتها بالتجربة لإصلاح ما ينجم عنها من خطأ في الإدراك، لأن (في التجارب علم مستأنف) (46).
أما العقل، فهو لإدراك الكليات وما وراء الطبيعة، وقد سبق في علمنا أنه (عليه السلام) استدل على وجود الله بالنظر في مخلوقاته وما فيها من نظام محكم وتدبير متقن، ومعنى هذا أنه يؤمن بالعقل الذي يدرك ما وراء الكون بالاستنتاج والانتقال من المعلوم إلى المجهول.
أما إذا عجزت الحواس والعقل عن إدراك ما يمكن وراء هذه الظواهر الحسية ـ فلا سبيل أمامنا سوى القرآن أو الوحي، نستعين به لكشف ما غاب عنا، يقول إخوان الصفاء: (إن الوحي هو أنباء عن أمور غائبة عن الحواس، يقدح في نفس الإنسان من غير قصد منه ولا تكلف) (47). إلا أن الوحي الذي يعنيه أخوان الصفاء، ليس كما صرّح به الإمام (عليه السلام) إنما هو أقرب إلى الحدس الصوفي القائم على الكشف والذوق. فهل يعتبر هذا الحدث الصوفي طريقاً آخر للإدراك يمكن الركون إليه كما هو الحال عند المتصوفة؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال، نوضح أن هناك فكرتين تتحدثان عن علاقة الله بالعالم. الأولى، و(يصح أن نسميها بالاثنينّية، وهي تعتقد في الله أنه مستقل عن الخلق يشرف عليه من فوق، ويمد كل مخلوق بإمداداته، ويدير نظام الكون من أصغره إلى أكبره، وهو فوق الأرض، وفوق السماء وفوق كل شيء. وإن في الكون موجودين متميزين عن بعضهما كل التمييز، مخلوق وخالق، ومدبَّر ومدبِّر، ومحكوم وحاكم. ووسيلة الإنسان في إدراك الله حسب هذه الفكرة هو العلم وقضايا المنطق.
أما الفكرة الثانية، وهي الواحدية، أو بعبارة أخرى، وحدة الوجود، ترى أن الله والخلق واحد، والحاكم والمحكوم شيء واحد، كما قال الحلاج:
أنا مــــن أهـوى ومن أهوى أنا***نحـــــن روحـــــان حللـــنا بدنا
فـــإذا أبصــــرته أبصــــــرتني***وإذا أبصـــرتني أبصرتـنا(48)
وإدراك الله هنا، يتم بالتروّض والكشف.
وما ذكره الإمام (عليه السلام) ينفي عن الله الحلول والاتحاد كما سبق وأشرنا إليه في حينه، ولا يقول بوحدة الوجود، بل يميز بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، ويؤمن بأن الإسلام يضع الإنسان أمام خالقه دون حجاب أو ترجمان أو وساطات تشفع له عند الله كما جاء في القول: (لم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه) (49).
ثم إنه يرفع من مكانة العقل ويعتبره المظلة الواقية من الخطأ في الإدراك، علماً بأن جميع النفوس قد فطرت على الإيمان بوجود الله، إلا تلك التي انحرفت عن فطرتها لسبب من التربية أو البيئة.
إذا أخذنا جميع هذه الأمور بعين الاعتبار، أمكننا الإجابة عن السؤال السابق بأن الإمام (عليه السلام) لم يأخذ بالحدس الصوفي كمصدر للمعرفة، ما دام العلم بالله حاصل بالفطرة والنظر العقلي، دون الوصول إلى تلك الحالة الخاصة التي يبلغها الإنسان بالوجد والكشف حيث يدرك عندها الله إدراكاً مباشراً. وما أشبه هذه التجربة العقلية التي يدعو إليها هذا الكتاب بتجربة (برغسون) التي تغلغل في صميم الواقع وتغوص في أعماقه وتتصل به اتصالاً مباشراً من غير واسطة تحول بين العارف والمعروف.

3ـ التفكير
التفكير بمعناه الواسع (اصطلاح عام يشمل كل أنواع النشاط الرمزي فيشمل الاستدلال والتخيل، وتكوين المعاني الكلية والابتكار، ويستخدم التفكير بديلات للأشياء الحقيقية والمواقف الواقعية، أي أنه يستخدم رموزاً تقوم مقام الأشياء أو الظروف. والرمز هو أي شيء ـ فكرة، معنى أو صورة يقوم مقام شيء آخر، فنستجيب له بنفس الأسلوب الذي نستجيب به للشيء نفسه) (50).
إن عملية التفكير ترجع إلى التفاعل بين العوامل العضوية أو البيولوجية المتمثلة بالجهاز العصبي المعقد، والعوامل الاجتماعية المتمثلة بالمؤثرات الاجتماعية المختلفة. فهو إذن عملية بيولوجية اجتماعية عن طريقه توصل الإنسان إلى بناء حضارة عظيمة تزخر بالتقدم العلمي والتنظيم الاجتماعي.
والتفكير ضرورة تربوية هامة يعتمد عليه الإنسان في تفاعله مع البيئة التي يعيش فيها، فهو في صراع دائم مع الحياة للحفاظ على استمرارية وجوده كما أنه محتاج، لكي يدافع عن نفسه ويؤمن حاجياته ويزيل الصعوبات والمشكلات التي تعترض طريقه، إلى أن يفكر ويختار نسب الحلول الملائمة. لذلك (يخطئ إذن من يحسب الإنسان آلة صماء في يد القوانين المادية. إنما هو كائن مدرك، حر الإرادة، قادر على اختيار سلوك معين، والاختيار خلق وإنشاء، فليس الإنسان رتيباً في حياته كالحيوان المحدود بغرائزه) (51). كما قول برغسون.
وهو في محاولته حل مشاكله، إنما يستعين على ذلك بالمحاولة والخطأ والتجربة والاختيار والابتكار والإبداع، لذلك كان التفكير نشاط ديناميكي هادف. ولا يعني هذا أن العقل لا يفكر إلا إذا اعترضته المشكلات الواقعية. فهو في نشاط مستمر، في حالة اليقظة أو الغفلة وما أحلام اليقظة إلا (استجابات بديلة للاستجابات الواقعية يتخذها الفرد عندما يفشل في أن يستجيب استجابات واقعية لما يواجهه من مثيرات فيلجأ إلى أوهامه يحقق فيها ما عجز عن تحقيقه في عالمه الواقعي، وهكذا نستطيع أن نعتبر الأحلام إحدى صور التفكير الذاتي) (52).
ثم إن ارتباط التفكير بالعمل يساعد الفرد على تحقيق آماله والوصول إلى غاياته. وكلما ارتفع مستوى الإنسان الفكري، اتجه بصورة أفضل نحو إحلال الأعمال بالأفكار أي يختبر صحة ما يصل إليه بصورة عقلية قبل أن يقوم بعمل معين، ويصبح التفكير بديلاً للعمل، وذلك لفاعليته واقتصاديته. لهذا كانت نتيجة التفكير هي الاقتصاد في الوقت والمجهود، وتوفير فرص أكبر للحياة والبقاء.
أما إذا لم يكن للتفكير أثر في زيادة كفايتنا العملية وتوسيع معرفتنا بأنفسنا وبالعالم الذي نعيشه فيه، وإذا لم يكن مساعداً على توفير الوقت والجهد، كان تفكيراً ناقصاً ومختلاً، لأن (الأفكار تبقى ناقصة إذا ما ظلت مجرد فكار، وأن خير ما يقال عنها أنها مؤقتة من قبيل الاقتراحات والدلالات. فهي أساليب وجوه لمعالجة أوضاع الخبرة، وإذا لم تطبق في مثل هذه الأوضاع، وبقيت ناقصة في معناها وواقعيتها، فالتطبيق وحده هو الذي يمتحنها، والامتحان وحده هو الذي يكسوها رداء الحقيقة، ويكسبها كمال المعنى. أما إذا بقيت الأفكار من غير استعمال فإنها تجنح إلى الانعزال وتكوين عالم خاص بها) (53). وإذا كانت للخبرة أهميتها في عملية التفكير فإنه لا سبيل إلى وجود خبرة ذات معنى، ودون أن يكون فيها عنصر من التفكير الذي هو (التعبير الصريح عن عنصر الذكاء في خبرتنا) (54).
على أن خبرتنا التي نصوغها في قوالب تفكيرنا، لا تعني الاهتمام بكل ما ورد فيها، وليس هذا من التفكير في شيء، ما نفكر به يجب أن نتدبره تدبيراً سليماً، بحيث يكون له أثر في مدى تفاعل الفرد مع بيئته، وفي حل المشكلات التي تعترضه، وهذا ما أكده جون ديوي بقوله: (فالتفكير في الأشياء كما ترد إلينا هو محاولتنا تعرّف ما تدلنا عليه من النتائج المحتملة أو المرجحة. أما أن نملأ رؤوسنا كما نملأ الدفاتر بشتى المعلومات الجزئية باعتبار أنها أشياء كاملة مفروغ منها، فليس ذلك من التفكير في شيء، إن هو إلا تحويل أنفسنا أجهزة تسجيل. ولكننا إذا تدبرنا تأثير الحوادث فيما قد يقع وإن لم يقع بعد، فذلك هو التفكير) (55).
وهكذا فالتفكير هو إحدى المكونات الرئيسية للتنظيم المعرفي للفرد وأهميته تكمن في إعطائه القدرة على امتلاك البيئة والتحكم فيها، كما يمكّنه من العمل المثمر الخلاق ويفتح أمامه فرصاً واسعة للنجاح. لذا كان التفكير عملية لابدّ منها في تنمية الفكر الإنساني وانطلاقه وتحريره من الجهل والجمود والتقليد.
ويعتبر الإمام علي (عليه السلام) من المفكرين الأوائل الذين أدركوا أهمية التفكير عند الإنسان فأشاد بالعقل ودعا إلى تنميته بالفكر، لأن الفكر جلاء للعقول، كما أنه يفيد الهداية والرشد واليقظة والاستبصار، ويعصم عن الضلال والشك. وكثيرة هي العبارات التي صدرت عنه بخصوص هذا الأمر يقول (عليه السلام): (الفكر يهدي) و(الفكر عبادة)، و(الرأي بالفكر) و(الفكر رشد) و(الفكر ينير القلب) (56).
وهكذا فإن الإمام علي (عليه السلام) يجد في التفكير القدرة على كشف الحقائق وتخليص العقل من الأوهام والأساطير، كما وأنه يرى فيه الهداية والرشد والرأي السديد ليس ذلك فحسب، بل أن العلم الحاصل عن التفكير هو من أشرف العلوم وأكثرها ثباتاً ودقة، وذلك بالقياس إلى ما ندعي امتلاكه بالحفظ والتلقين بلا وعي ودراية. وما العبرة في علم إذا لم يكن جزءاً من كياننا ومثار سلوكنا ومحقق أهدافنا وغاياتنا في الحياة؟ فالملاحظة السطحية وغير الكاملة تعيق نمو العقل بل وتفسده، وعدم التركيز الفكري يعرقل نضوجه وتطوره. لذلك كان التفكير أحد العوامل الرئيسية في ديناميكية العقل وزيادة إنتاجه، فيجب والحالة هذه أن يكون نمو هذه الملكة عند الإنسان، هو الهدف الأسمى لعملية التربية والتعليم. لقد قرن (عليه السلام) بين الفكر والرشد والهداية ـ كذلك فقد قرن بين رفيع العلم وما بني منه على أساس متين من التفكير عندما قال: (لا علم كالتفكير) (57).
إن اهتمام الإمام (عليه السلام) بهذا الجوهر الثمين عند الإنسان، بالإضافة إلى ما تضمنه من نشاطات فكرية تجلت في الحديث عن الله والعالم العلوي، والكون بما فيه من مخلوقات يغلب عليها التعقيد والغموض، إنما يدعو إلى ضرورة أن يتمتع الإنسان بعمق في التفكير وسعة في الاطلاع حتى تكون النتائج يقينية بحيث لا يتطرق إليها الخطأ أو الزلل.
كما أنها تكشف عن طبيعته الفكرية وما للعقل من أهمية كبرى في صياغة تفكيره وإبداء وجهات نظره في الكون والحياة وفي نفسه وكيفية إسعادها من خلال استناد الفكر إلى الخبرة الواسعة والربط بينه وبين العمل.
هذه السمات الفكرية التي أبرزها الإمام (عليه السلام) إنما ترتكز في أساسها على الإسلام، الأمر الذي يجعل من هذا الكتاب، إحدى الذخائر الإسلامية الهامة التي لا يمكن الاستغناء عنها في البحث عن الوسائل والطرق المؤدية إلى حسن إعداد الإنسان للحياة.
إن اهتمامه (عليه السلام) بهذا الجوهر الثمين عند الإنسان، بالإضافة إلى ما أثر عنه من نشاطات فكرية متعددة، إنما ينم عن عمق في التفكير، وسعة في الاطلاع ودقة في الملاحظة، بها امتاز وتفوّق على سائر معاصريه، ومن أبرز مظاهر تفكيره ذاك التسلسل المنطقي والتماسك الفكري الذي نراه بادياً في (النهج) بحيث أن كل فكرة هي نتيجة طبيعية لما قبلها وعلّة لما بعدها. ولقد كانت غايته من وراء ذلك ليس إبراز مقدرته الفكرية واللغوية والعلمية، وإنما تشجيعاً لقومه على التفكير، وتحريرهم من رقدة الجهالة، وتنويرهم بالعبر والأحداث حتى يثوبوا إلى رشدهم ويعيشوا في رحاب العلم والمعرفة وما ذلك إلا لأن الفكرة تورث النور والغفلة تورث الظلام.

- التربية والتعليم:
تربية الإنسان وتعليمه، عملية أساسية اضطلعت بها الأسرة أولاً، وتولت مهمة القيام عليها منذ نعومة أظفار هذا الكائن الحي، ثم توالت على ممارستها مؤسسات مختلفة لهذه الغاية.
ولقد اختلفت الآراء حول مضمون هذه العملية، وذلك لاختلاف الأنماط الثقافية والحضارية والتربوية لكل أمة من الأمم، لكنها اتفقت جميعها على كونها طريقة إعداد للحياة، كما اختفت في معنى كل من التربية والتعليم، فمنهم من استعملها بمعنى واحد، ومنهم من ميز بينهما.
والواقع أن مفهوم التربية يختلف عن مفهوم التعليم. وعدم التمييز بينهما يؤدي إلى تفكك الأساليب التربوية وتشويش شخصية الطفل، لأن تزويده بأنواع العلوم والثقافات قبل تهيئة التربة الصالحة لها، إنما معناه البنيان على الرمال.
ولقد ميز (دي نوي) بين التربية والتعليم فقال: (فتربية الولد تقوم على تهذيب سجاياه الخلقية وتعليمه المبادئ الأساسية الثابتة التي يعترف بها الإنسان في كل البلدان، وإنماء الكرامة الإنسانية فيه منذ نعومة أظفاره. أما تعليمه فهو تغذيته بالمدنية التي جمعها الإنسان في مختلف الحقول. والتربية تصوب أعماله وتوحي إليه سلوكه في علاقاته مع الناس، وتساعده على تملك زمام نزواته. أما التعليم فيوفر له عناصر نشاطه الفكري ويعرفه بحالة التمدن الحديث. تعطيه التربية أسس الحياة التي لا تتبدل، ويمكنه العلم من التكيف حسب تبدلات محيطه، ومن ربط هذه التبدلات بالحوادث الماضية والمستقبلية) (58).
فتربية الطفل إذن تبدأ قبل تعليمه، ولا يخفى أثر هذه التربية الأولى على شخصيته، إذ على مبادئها ومعطياتها يدرج وينمو ويبني كياناً مستقبلاً فاعلاً. وهذا ما يفسر ضخامة البناء الفكري الذي يشيده خلال سنيه الأولى، حيث تعمد التربية إلى كشف وإبراز ما يتمتع به من ميول ومواهب وقدرات وأهداف ليمارسها فيما بعد بالتعليم والعليم اللذين ليساهما، كما يقول أخوان الصفاء، (سوى إخراج ما في القوة يعني الإمكان، إلى الفعل يعني الوجود) (59).


أولاً: التربية
إن تربية الطفل إذن، يجب أن تبدأ منذ المهد، وذلك بتنشئته على الأخلاق الفاضلة والعادات الحسنة، قبل أن يبدأ باكتساب العلوم أو يتشوه سلوكه بالعادات السيئة. يقول (دي نوي): (وعلى التربية الأولى أن تكيف أخلاق الولد ما دام دماغه ليناً خلواً من كل أثر وينبغي أن يتم هذا العمل الإعدادي قبل أن يكون احتكاك شخصيته بالعلم قد كوّن عادات يصبح من الضروري محاربتها يوماً ما) (60).
ولا شك في أن هذه الفترة، من حياة الطفل إنما هي من أنسب الفترات وأخصبها وأكثرها أثراً على حياته ومستقبله، وذلك أنه (بقدر ما يكون الولد حديث السن، يسهل الحصول على نتيجة تربيته، فتنطبع القواعد فيه انطباعاً لا يمحى، وتأتي التأثيرات الأخرى الناتجة عن احتكاكه بالمحيط فلا تزيل أثرها. أما إذا جاءت القواعد الخلقية المعقدة وفرضت على الولد، بعد أن يكون سلك سلوكاً شخصياً، فلسنا نتمكن من محو الارتكاسات الذاتية) (61).
ولقد تحدث الإمام علي (عليه السلام) عن هذا الأمر قبل ذلك بآلاف السنين. إذ يرى وجوب مباشرة الحدث بالتربية وتعهده بها، قبل أن يقسو قلبه أو ينشغل عقله بالعقائد والعادات السيئة التي تهجم عليه وتطبع سلوكه إذا ما وجدت سبيلاً لها إلى عقله، الذي يصوره الإمام (عليه السلام) بقوله: كـ(الصفحة البيضاء) أو كـ(الأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء إلا قبلته) (62).
وهكذا، فقلب الحدث خال من الانتقاش بالعقائد مع استعداده لتقبل ما يلقى إليه من خير أو شر كما يقول الغزالي: (وقلب الطفل الطاهر، جوهرة نفيسة ساذجة عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة.. وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك) (63).
نستنتج من ذلك أن المعرفة لا تولد مع الشخص، وإنما يولد معه الاستعداد لتحصيلها، وهذا هو معنى وجود العلم بالقوة في النفس الإنسانية. وهو قابل للتعلم منذ صغره، لأن حواسه ومداركه تكون منفتحة ومتيقظة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها، (فإنه في الوقت والساعة تدرك حواسه محسوساتها) (64).

1- وظائف التربية:
ولا تقتصر وظيفة التربية على إعداد الإنسان أخلاقياً صالحاً بل هي تمتد لتلعب دورها في تطور البناء الاجتماعي من خلال: نقل التراث الثقافي وتغيير كيان الفرد والمجتمع.
نقل التراث الثقافي
إن تحليل معنى التراث الثقافي وعلاقة الإنسان به، يوضح مدى أهمية العملية الاجتماعية التي يتم بواسطتها نقل الأنماط الثقافية من جيل إلى آخر يأتي بعده.
فالثقافة تعني مختلف وسائل التعبير وأنماط السلوك التي تبرز خصوصية شعب من الشعوب، لذلك فهي تشمل، استناداً إلى رأي الأنثروبولوجين الأميركيين بشكل خاص (على كل أنماط السلوك التي يعبر بها الإنسان عن نفسه والتي يشاركه فيها الآخرون، فهي تشمل الأدب والفن والديانات والميثولوجيات والأخلاق أو الآداب القومية والشعبية ومظاهر الحياة الاجتماعية من لباس وتزيين وكيفية طبخ وأكل.. الخ، فهذه كلها تعابير ورموز وآيات يعبر بها الإنسان عن نفسه، فهي ثقافته حتى لو كانت تقتصر على بعض المظاهر الفلكلورية) (65).
وإذا كان التراث الثقافي مبعث آمال الأئمة وملهم مشاعرها وعنوان تقدمها والانقطاع عنه يؤدي إلى هدم الأساس الذي تقوم عليه حضارتها، فإن إعادة نبش هذا التراث من بطون التاريخ، ونفض الغبار عنه وصياغته صياغة جديدة تقتضيها الحال عملية تربوية شاقة يضطلع بها الجيل السابق لتقديمه غذاءً سائغاً إلى الناشئة من الأجيال اللاحقة. ومن هذا المنطق، فقد عرفت التربية بحسب دلالتها وعلاقتها بالحياة الاجتماعية. وهذا ما فعله المفكر الاجتماعي المشهور (اميل دوركهايم) في أوائل القرن الحالي، بقوله أنها (التأثير الذي يجزيه الجيل الراشد في الجيل الناشئ) (66)، وهذا ما كان قد عبر عنه ابن خلدون في الربع الأخير من القرن الرابع عشر، عندما نظر إلى القضية، نظرة المفكر الاجتماعية ولاحظ أن الجيل الناشئ يتشوق إلى تلقي العلوم والمعارف من الجيل الذي سبقه فيقول: (وهي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم) (67). وقول ابن خلدون هذا لا يختلف معنى ومدلولاً عن قول (إميل دوركهايم) السالف الذكر.
ولقد تحدث الإمام (عليه السلام) عن هذا التفاعل الثقافي والاتصال الفكري بين الماضي والحاضر، انطلاقاً من تراث الإسلام المشرق، الذي صوره أقوالاً وأفعالاً ومبادئ تربوية يمكن الاستفادة منها في بناء الإنسان الفاضل، ومن تأكيده على أهمية هذا التراث وأثره الفعال في شحذ الهمم، نراه يتوجه إلى كل إنسان بما يراه صالحاً له في الدنيا والآخرة، فينقل إليه آثار الأولين والآخرين، نقية صافية من الأخطاء والشوائب من خلال السير في ديارهم وتتبع آثارهم وتمييز ما ينفع وما يضر منها. فالاتصال بالجذور لا ينبغي أن يكون عشوائياً بحيث يجذبنا التراث ويأسر أفئدتنا فنأخذ منه الغث والثمين. لهذا وحرصاً على صلاحية الهدف الذي نتوخاه من التربية يجب (أن لا يكون الاتصال بالماضي ضرباً من التبعية أو العبودية لهذا الماضي إذ لابدّ لنا من أن نجتهد على الماضي فنتجنب السلبيات ونؤكد على الإيجابيات) (68).
كذلك، فإن محتوى النقل الثقافي يجب أن يكون هادفاً بحيث يتحدد بنوع المواطنة الصالحة التي نريدها ونوع المجتمع الذي ينبغي بناؤه وتكوينه بحيث تكون أهداف التربية منسجمة مع أهداف المجتمع حتى لا يحصل التناقض بينهما فتكون النتيجة خلاف ما نتوخاه ونعمل له. وليس أدل على ذلك من الاضطراب والتفكك الذي يظهر في المجتمعات التي تنشد التطور بينما هي ترزح تحت عبء القيم التربوية البالية والمتأخرة. لهذا (.. فالتربية ملزمة بهذه الوظيفة وعلى عاتقها يقع عبء الاختيار من بين الاتجاهات والقيم والعادات والمعارف والعلوم التي توجد في المجتمع على أساس التمييز بين المرغوب فيها والمرغوب عنها، ذلك أن كل مجتمع يتضمن الكثير من العناصر المختلطة والأفكار المتنوعة، والقيم المتعارضة المتشابكة. فوظيفة التربية في هذا المجال تكمن في تنمية الاتجاهات والقيم المنتقاة على ضوء الأهداف العليا لذلك المجتمع) (69).
من أجل ذلك فإن أول ما يجب أن تنقله التربية إلى الأجيال الناشئة، هو كتاب الله، تنقله إليهم نقباً صافياً، خالياً من الشوائب باعتباره من أهم الركائز التي يجب أن يستند إليها الإنسان طيلة حياته لتقويم اعوجاج سلوكه وتنقية نفسه من الأدران التي علقت بها من جراء الابتعاد عن السبيل الصالح الذي رسمه الله في كتابه الكريم. وهذا ما أكده (عليه السلام) حيث اعتبر القرآن الأداة الفعالة في بناء الفرد والجماعة، فقال في وصية الحسن (عليه السلام)، المولود البكر لأمير المؤمنين والإمام الثاني من أئمة أهل البيت: (وأن ابتدئُك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ، وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله وحرامه لا أجاوز ذلك بك إلى غيره) (70).
لقد كانت الغاية من وراء ذلك، أن يزود الحسن (عليه السلام) ومن خلاله أهل الإسلام جميعهم بمقومات التغيير قبل أن تلتبس عليه أهواء الناس وآرائهم ومعتقداتهم الباطلة فيقول، (ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم فكان أحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إليّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة ورجوت أن يوفقك الله لرشدك، وإن يهديك لقصدك فعهدت إليك وصيتي هذه) (71).
هذا المبدأ التربوي الهام الذي قرره الإمام (عليه السلام) منذ أمد بعيد إنما يقضي باستغلال نقاوة الفكر الإنساني لزرعه بالمعلومات الصحيحة. قبل أن تهجم عليه الأخلاق الذميمة والآراء الفاسدة الأمر الذي يجعل من الصعب على التربية أن تعيد تشكيله من جديد، وهذا يتوافق مع أحدث المناهج التربوية في يومنا هذا.

ـ التغيير الفردي والاجتماعي
ويقصد به كل تحول يحدث في كيان الفرد والمجتمع، وهذا التحول ينتج عن الصراع بين القديم والجديد، وعلى أساس هذا الصراع تتحدد وجهة سير هذا التغيير وسرعته. ذلك أن كل نمط ثقافي جديد يقابل بموقفين متعارضين أحدهما يدفعها إلى الأمام، والآخر يشده إلى الوراء. لهذا فالثقة الاجتماعية، إما أن تكون متطورة (ديناميكية) ترحب بالجديد وتتفاعل معه، وإما أن تكون جامدة (استاتيكية) تحافظ على القديم وتصدر رياح التغيير عنه. من هذا المنطق، فإن موضوع التغيير الذي تحدثه التربية، أصبح من أهم موضوعات علم الاجتماع ممّا يفرضه على الأفراد والمجتمعات من تحولات متفاوتة بين القوة والضعف، ولها أثرها في إعادة ترتيب الحياة من جديد. إلا أن هذا التغيير لن يؤتي ثماره ما لم تتوفر له القيادة المتميزة بالصلابة والتماسك والتي لا ترضخ لعنف الرفض والمقاومة.

أ) التغير على مستوى الفردإن التغير الذي تحدث التربية في نفسية الفرد، إنما هو بداية للتحول العظيم الذي سيطال المجتمع ككل. وبما أن للقيادة دورها الهام في إحداث التغيير المطلوب، فإن الاقتداء بها أمر يساهم في سرعة هذا التغيير. ولقد أعطى (عليه السلام) القدوة التي يجب أن تحتذى لحسم صراع النفس مع شهواتها لصالح الإنسان الفاضل وكانت وصاياه ومواعظه تصب في هذا الإطار فيقول في وصية إلى (شريح بن هانئ): (واعلم أنك لم تردع نفسك عن كثير ممّا تحب مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر فكن لنفسك مانعاً رادعاً، ولنزواتك عند الحفيظة واقماً قامعاً) (72).
وردع النفس عن شهواتها يستلزم الزهد في الدنيا، وما أكثر الخطب والمواعظ التي أوردها الإمام في الزهد تشبهاً بحياة الرسول والاقتداء به حتى قال فيه عمر بن عبد العزيز: (ما علمنا أن أحداً كان في هذه الأمة بعد النبي أزهد من علي بن أبي طالب) (73).
ولا شك أن السيطرة على أهواء النفس والزهد في الدنيا من أكثر الأمور المشجعة على السلوك الفاضل. والتربية التي نعتمدها، إنما تساهم في تنمية الحس الخلقي للفرد وصياغة فكره قوالب معينة وبفضل التربية ينتقل الإنسان من بيداء الجهل إلى ميادين العلم والمعرفة كما في وصية الحسن (عليه السلام): (فإنك أول ما خلقت به جاهلاً ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك) (74).

ب) التغير على مستوى المجتمع
إن التغير على مستوى المجتمع لا يتم بالصورة التي يتمناها رواد التربية فقد يكون سهل المنال وقد يقاوم بمعارضة شديدة، والمقاومة هي الأكثر حصولاً لتشبث القديم بقدمه، ورغبة الجديد في التطور والتقدم. وهذه حال رواد الصلاح والتغيير في العالم. وقس على ذلك حال الأنبياء والرسل والأئمة، والتاريخ يشهد بذلك. لقد جاوبه الإمام علي (عليه السلام) بمقاومة عنيفة من الفئات التي كانت تفضل الركود والجمود حرصاً على مصالحها وامتيازاتها فوقفت سداً منيعاً أمام رياح التغيير وحاولت منعه من تنفيذ برنامجه في الإصلاح، وقبل ذلك وقف النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) ومعه الإيمان كله يصد موجات الكفر والضلال التي رفضت دعوته وأبت عليه مهمته في قهر الشرك ورسم معالم التوحيد.
إن روح الإصلاح والتغيير التي تنبعث من كلمات الإمام علي (عليه السلام) وتتأكد في مواقف ومناسبات عديدة، تقابل بالإصرار على العنف والرفض والمعاناة كما يقول (عليه السلام): فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب) (75).
إن حسم الصراع لن يتم إلا بالثبات في المواقف والتماسك في النفس حتى في أحلك الظروف، فلا يفت اليأس من عضد القائد أو يتسرب إلى قلبه ولا يرهبه عنف الصراع واحتدامه، فالتربية التي يتحدث عنها الإمام (عليه السلام) هي تلك التي تبني كياناً للإنسان يلزمه باتخاذ المواقف الأكثر صلابة تجاه الحق، فلا تؤثر فيه الإغراءات، ولا تخيفه الأعاصير كما جاء في قوله إلى أخيه عقيل: (لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، ولا تحسبنّ ابن أبيك ـ ولو أسلمه الناس ـ متضرعاً متخشعاً، ولا مقراً للضيم واهناً، ولا سلسل الزمام للقائد ولا وطئ الظهر للراكب المقتعد) (76).
ولا شك من أن لهذا الثبات والتصميم في إزالة كل العوائق التي تحول دون بلوغ التغيير الاجتماعي الهادف، دوراً هاماً في تحقيق النصر النهائي بهدم صروح الحضارة البالية والتشييد لبناء حضارة خالدة (فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكتب وأنزل علينا النصر) (77).





الهوامش:
1- باقر شريف القرشي، النظام التربوي في الإسلام، ص41، عن تاج العروس، ج1، ص261.
2- سليمان، كامل والعبد الله، علي: التربية، مطبعة صادر، بيروت، 1965، ص176-177.
3- نفسه، ص176-177.
4- نفس المصدر.
5- الغزالي، رسالة أيها الوالد، ترجمة توفيق الصباغ، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، سنة 1951، ص37.
6- ديوي، جون، الديمقراطية والتربية، ترجمة متى عقراوي، وزكريا ميخائيل، طبعة محددة لأغراض دراسية، بيروت، 1970، ج1، ص12.
7- أنظر ح، ج19، ص284.
8- مستدرك نهج البلاغة، ص177.
9- انظر ح، ج19، ص164.
10- سورة القصص، آية 77.
11- مقالات الإسلاميين، ج2، ص329.
12- سورة الرحمن، آية 14.
13- المصدر نفسه، ص 329.
14- المصدر نفسه، ص 331.
15- المصدر نفسه، ص 333.
16- المصدر نفسه، ص 337.
17- المصدر نفسه، ص 336.
18- سورة الحجر، آية 29.
19- سورة الفجر، آية 27-28.
20- مستدرك نهج البلاغة، ص160.
21- انظر ح، ج20، ص194.
22- انظر ح، ج20، ص292.
23- المصدر نفسه، ج20، ص292.
24- المصدر نفسه، ج19، ص173.
25- المصدر نفسه، ج20، ص260.
26- المصدر نفسه، ج20، ص267.
27- المصدر نفسه، ج20، ص260.
28- انظر ح، ج18، ص271.
29- المصدر نفسه، ج6، ص416.
30- المصدر نفسه، ج13، ص18.
31- انظر ح، ج19، ص11.
32- أ. س. زابوبرت، مبادئ الفلسفة، ترجمة أحمد أمين، ط7، القاهرة، 1964، ص80.
33- انظر ح، ج11، ص38.
.
34- إحياء علوم الدين، ج3، ص74.
35- انظر ح، ج16، ص67.
36- انظر ح، ج18، ص254.
37- الفندي، محمد ثابت، مقدمات في الفلسفة، مكتب كريدية أخوان، بيروت، 1971، طبعة محددة لأغراض دراسية، ص43.
38- مالبرانش، أحاديث في الميتافيزيقا، الحديث الثالث، عن كتاب (بعض مشكلات الفلسفة) لـ(وليم جيمس) ص94.
39- وليم جيمس، بعض مشكلات الفلسفة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، دار الطلبة العرب، بيروت، سنة 1669، ط2، ص20-21.
40- انظر ح، ج16، ص64.
41- المصدر نفسه، ج18، ص245.
42- بلدي، نجيب ديكارت، دار المعارف، بمصر سنة 1968، ص65.
43- ويل ديورانت: قصة الفلسفة، ص319-320.
44- المصدر نفسه، ص334-335.
45- المصدر نفسه، ص561.
46- انظر ح، ج20، ص259.
47- الرسائل، ج4، ص84.
48- أحمد أمين، ظهر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، ط3، القاهرة، سنة 1962م، ج2، ص60.
49- انظر ح، ج16، ص86.
50- حلمي المليجي، علم النفس المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، ص1970، ص209.
51- قصة الفلسفة، ص559.
52- عبد السلام عبد الغفار، مقدمة في علم النفس العام، دار مكتبة الجامعة العربية، بيروت، 1969، ص268.
53- الديمقراطية والتربة، ج1، ص181.
54- نفسه، ج1، ص165.
55- الديمقراطية والتربية، ج1، ص166.
56- جميع هذه الأقوال أخذت من كتاب (الغرر والدرر) للآمدي، ص43.
57- انظر ح، ج18، ص276.
58- مصير الإنسان، ص301.
59- أخوان الصفاء، الرسائل، ج1، ص262.
60- مصير الإنسان، ص305-307.
61- المصدر نفسه، ص305-307.
62- انظر ح، ج16، ص66.
63- إحياء علوم الدين، ج3، ص72.
64- رسائل أخوان الصفاء، ج3، ص414.
65- العروي، عبد الله، العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت، 1973، ص70.
66- الحصري، ساطع: دراسات في مقدمة ابن خلدون، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، ص1967، ص444.
67- ابن خلدون، المقدمة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط5، د. ت. ص433.
68- لبنان الحضارة الواحدة، لمجموعة من الأستاذة، صدر عن النادي الثقافي العربي في بيروت، وهذا النص أخذ من مقال الدكتور معن زيادة في هذا الكتاب، ص21.
69- علي محمد الحسين الأديب، منهج التربية عند الإمام علي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1979، ص53.
70- انظر ح، ج16، ص68.
71- نفسه، ج16، ص68.
72- انظر ح، ج17، ص138.
73- فضائل أمير المؤمنين وإمامته، ج2، ص345.
74- انظر ح، ج16، ص74.
75- انظر ح، ج14، ص47.
76- المصدر نفسه، ج16، ص148.
77- المصدر نفسه، ج4، ص33.







رد مع اقتباس
قديم 03-31-2010, 03:44 PM   رقم المشاركة : 4
guest123
( عضو جديد )
الملف الشخصي




الحالة
guest123 غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي رد: ارجوكم ساعدوني

shokraan =D






رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة



جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:27 PM.


منتديات أبو الفضل العباس
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات أبو الفضل العباس عليه السلام