العودة   منتديات أبو الفضل العباس عليه السلام > ¤©§][§©¤][ المنبر الاسلامي ][¤©§][§©¤ > منتدى الإمام الحسين عليه السلام
 
 

منتدى الإمام الحسين عليه السلام شذرات من سيرة الإمام الحسين عليه السلام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-11-2015, 06:35 AM   رقم المشاركة : 1
صلاتي حياتي
(مشرفة منتدى الإمام الحسين عليه السلام)

الملف الشخصي




الحالة
صلاتي حياتي غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي الم.. ذلك الحسين (رواية)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم


الم.. ذلك الحسين (رواية)


الكلاب تنهش جسده بقسوة.. كلاب لم يَرَها من قبل.. متوحشة.. ملوّثة بكل القذارات.. يَنزّ من أنيابها الصديد. يحاول دفعها ولكن لا جدوى. إنها مسعورة وتزداد ضراوة وقسوة. وأشدّها كان الأبقع. إنه يطلب العُنق.. يندفع بوحشية لينقضّ على الرقبة الناصعة.. كإبريق فضة.
ـ آه .. آه.. ماء .. ماء.. قلبي يتفطّر عطشاً.
انتبه من نومه... جفّف حبّاتِ عَرَقٍ كانت تتلألأ في ضوء القمر.
تقابل الوجهان.. وجه القمر، ووجهه.
تأمّل الحسين النجوم في أغوارها البعيدة.
البريق القادم من الأعماق السحيقة يشتدّ لمعاناً.. يومض.. يحاول كشف الأسرار.
نهض السبط من فراشه.. أسبغ وضوءه.. أشاعت برودة الماء السلام في روحه. لقد مضى من الليل ثلثاه، وليس هناك ما يخدش صمت الليل سوى نباح كلاب بعيدة.
حمل جراباً مليئاً بالطعام، وكيساً يغصّ بصرار الدراهم الفضية والدنانير، وراح يجوس أزقّة المدينة.
اجتاز بعض المنعطفات.. توقّف أمام بيت يكاد يتهدّم. أحكم لثامه، فبدا كشبح من أشباح الليل، أو سرّ من أسراره. وضع قدراً من السمن، وشيئاً من الدقيق، وأسقط ـ من كوّة صغيرة ـ صرّة نقود، ثم طرق الباب، وحثّ الخطى ـ قبل أن تنفتح ـ داخل زقاق غارق في الظلام..
كانت تنبعث من كوّة بيت كبير أضواء ساطعة.. وسمع ضحكة ماجنة أعقبتها ضحكات. استعاذ بالله، وهو ينعطف نحو اليمين. صار قريباً من قصر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ حاكم المدينة.
منظر القصر المنيف، والبيوت الطينية التي تحيطه من كل الجهات يعبّر عن الظلم الفادح في توزع الثروات؛ الفقر الى جانب الغنى.. البؤس الى جانب الترف والبذخ..
ـ اين انت يا رسول الله؟!.. هلّم لتشاهد ما يفعل طلقاؤك.. في مدينتك.. أين أنت يا جدّاه ؟..
الليل ما يزال يغمر المدينة بظلمة حالكة يحيطها بالاسرار؛ والنجوم ما تزال مسمّرة في صفحة السماء؛ والقمر يختفي خلف الرُّبى والتلال، فيزداد الظلام رهبة. كراهبة ترفل بحلّتها السوداء بدت المدينة تلك الليلة.
توقّف الرجل الأسمر ذوالعينين المتألّقتين والانف الاشمّ. وقف الى جانب النخلة الّتي غرسها جدّه النّبي وتذكّر حديثه: أكرِموا عمتكم النخلة. لقد شاخت كثيراً، ولكنها ما تزال تهَب الرطب والتمر والضلال. أسند جذعه الى جذعها.. أضحيا جذعاً واحداً.. انبثق نبع من الصلاة، وغمر رشاش الكلمات السماوية المكان.. وصلّى الحسين ركعتين.. ثمّ انطلق نحو النبيّ.
الذاكرة ما تزال تتألق بصور الطفولة.. الحسين بسنواته السبع يركض نحو جدّه العظيم.. يرتمي في أحضان النبوّة وعبق الوحي، وابتسامات الملائكة تغمر دنياه. وتتلاحق الصور.. تشتعل وتنطفئ كبروق سماوية.
ألقى الرجل الذي ذرّف على الخمسين بنفسه على القبر. شعر بدفء الاحضان. احتضن التربة الطاهرة، وراح يستنشق.. يملأ صدره بشذى السماء. شعر بأنّه يقبّل وجه جدّه.. يمسّد شعره المتموّج تموّج الصحارى، ويداعب سوالفه الملألئة. وشعر أنه يعانق آدم وابراهيم، ويحتضن الكون كلّه.
ـ يا جدّاه، انهم يريدون مني شيئاً عظيماً.. تكاد له السماوات يتفطّرن وتنشقّ الارض. يريدون لِقمم الجبال أن تغادر اماكنها الشماء الى الهاوية، وللسحب أن تدع السماء، وللنخيل أن تنحني.. انهم يريدن للحسين أن يبايع.. يبايع يزيد..
أغمض الحسين عينيه المتعبتين، فانبثق شلاّل من نور محمّد.. وجه يتلألأ كالبدر، ترفرف حوله أجنحة الملائكة مثنى وثلاث ورباع.
ـ حبيبي يا حسين.. إن اباك وامك واخاك قدموا علَيّ.. انهم مشتاقون اليك، فهلمّ إلينا.
ـ لاحاجة بي الى الدنبا، فخذني اليك يا أبتي.
ـ والشهادة يا بني.. الدنيا كلّها تحتاج شهادتك.
وانتبه الحسين على أنفاس الصبح، فودّع جدّه وقفل عائداً الى منزله. الرؤيا تتجسّد امام عينيه، حتّى كاد يلمس غصناً من سدرة المنتهى. نور سماويّ في أعماقه.. ونداء يتردد في صدره.. يدعوه الى الرحيل. لقد أزفت الساعة.. والنوق في الصحارى رفعت رؤوسها تترقب انتظام القافلة.


* * *

ما لها المدينة خائفة هكذا، بيوتها ترتجف، وجدرانها تهتزّ رعباً ؟.. أين مجد الكوفة الضائع؟.. أين هيبتها القديمة ؟.. أم تراها نسيت أنها كانت العاصمة ؟!
تساءل الرجل الغريب ـ الذي كانت تحفّه الألوف قبل ليلة.. أمّا الآن فهو يجوس أزقّة المدينة خائفاً يترقب.. ليس معه من يدلّه على الطريق..
هل تراه أخفق في مهمته.. انه سفير الحسين الى الكوفة عاصمة المجد الغابر. أين الرجال الذين بايعوه على الثورة ؟!.. أين كل تلك السيوف والدروع، وتلك الكمات الّتي تشبه بوارق الفضاء ودويّ الرعود؟!.
كيف تحوّل جيش ناهز العشرين ألفاً الى فئران خائفة تختبئ مذعورة في جحور.. منقوبة في الأرض؟.
فكّر أن ينادي بأعلى صوته: «يا منصور أمت»؛ شعار الثورة.. ذكريات بدر.. علّهم يلتفّون حوله من جديد.. علّهم يهبّون لحصار قصر الظلم مرّة أخرى. ولكنّ من تركوه في وضح النهار، كيف يعودون اليه في قلب الظلام. الّذين فرّوا في ضوء الشمس، هل يعودون في غمرة الليل؟
كان مسلم بن عقيل يسير.. ينقل خطىً واهنة. تداعت أمامه كل الصور المثيرة، وهو يعبر الصحراء مع دليلَيه.. الرمال المتموّجة القاحلة حيث لا ماء.. ولا حياة.. ولا شيء، سوى الذرات الملتهبة.. الظمأ.. التيه..
مات الدليلان عطشاً، أمّا هو فبقي يواصل سيره وحيداً. أراد أن يعود من حيث أتى.. ولكن الحسين كان يريد له المسير حتى النهاية. انه سفيره الى الكوفة.. الكوفة.. الّتي تريد استرداد مجدها الضائع.. الكوفة الّتي تتلهف لرؤية علي بن أبي طالب مرّة أخرى.. تنشد عدله.. رحمته.. رفقه بالفقراء والمساكين.. تريد أن تطرب على بلاغته من جديد.. تريد للمنبر المهجور أن يتدفّق علماً وفصاحة.
تلك احلام الرجال الفئران تحلم في جحورها وترتجف ذغراً.
الاحلام الوردية تحتاج سواعد بقوّة الحديد أو أشدّ بأساً.
«السفير» أعياه التعب.. كقائد مخذول كان يجرجر نفسه بعناء.. يحسّ مرارة الهزيمة.. أمان جيش وهمي. حقّ له أن يندهش كيف تشتّت جيشه الكبير امام شائعة كاذبة!.. أمام جيش سوف يصل من الشام.. جيش وهمي.. صنعه الخيال المريض.. الخيال الذي يحلم بعقل فأرة مذعورة مِن القط.. مِن اسمه فقط.
جلس الغريب عند باب عتيقة، وراح يلتقط أنفاسه كأنه ما يزال يخترق الصحراء.. يجوب الأودية.
فتحت «طوعة» ـ المرأة العجوز التي كانت تنتظر عوده ابنها؛ والابن ذهب يبحث عن الرجل الجائزة.
ـ هل لي في جرعة من الماء ؟
وما أسرع أن عادت المرأة تحمل اليه الماء.. فراح يعبّ منه، ثمّ سكب الباقي على صدره. اراد ان يطفئ لهيب الصحراء في أعماقه.
قالت العجوز مستنكرة جلوسه:
ـ ألم تشرب يا عبدالله ؟!.. قم فانصرف الى أهلك.
اعتصَم بالصمت.. الصمت المجهول الذي لا يريد أن يسبر غوره أحد.
ـ قم عافاك الله.. فانه لا يجدر بك الجلوس على بابي.
ـ وماذا افعل.. لقد ضللت الطريق.. وليس هناك من يدلّني.
قالت المرأة متوجسة:
ـ من تكون يا عبدالله ؟!
ـ أنا مسلم بن عقيل.
فهتفت المرأة مأخوذة بالمفاجأة:
ـ أنت مسلم؟!.. انهض اذن انهض.
ـ الى اين يا أمة الله ؟
ـ الى بيتي..
وانفتح باب في الأفق المظلم.. كوّة تفضي الى النور.. لحظة من أمل.. قطرة ماء في لهب الصحراء.
واحتضن بيت كوفيّ « مسلمَ بن عقيل » ـ الرجل الشريد. امّا بقية البيوت فقد كانت تصغي برعب الى حوافر الخيل وهي تدكّ الارض بحثاً عن رجل غريب.



اللهم صل على محمد وآل محمد الأوصياء الراضين المرضيين بأفضل صلواتك وبارك عليهم بأفضل بركاتك
والسلام عليهم وعلى أرواحهم وأجسادهم ورحمة الله وبركاته



يتبع ...










رد مع اقتباس
قديم 10-13-2015, 06:13 AM   رقم المشاركة : 2
صلاتي حياتي
(مشرفة منتدى الإمام الحسين عليه السلام)

الملف الشخصي




الحالة
صلاتي حياتي غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي رد: الم.. ذلك الحسين (رواية)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم


* * *

القافلة تطوي الصحراء في طريقها الى أم القرى.. قافلة عجيبة. لم تكن قافلة تجارية، ولم تبدُ ـ كذلك ـ قافلة للحجاج.. ففيها أطفال كثيرون.. أطفال يشبهون ورود الربيع.. قافلة يتقدمها رجل في عينيه بريق الشمس وفي جبينه يتلألأ القمر، وفي حنايا صدره تنطوي الصحارى. الى جانبه وجه يشبه البدر.. شاب في الثلاثين من عمره أو يزيد.. يُدعى «أبوالفضل» أو قمر بني هاشم.. دائم النظر الى أخيه يتأمله بخشوع.. يخاطبه: يا سيّدي.
ويظهر خلفه فتى عجيب يشبه النبي خلْقاً وخُلُقاً ومنطقاً.. إنه عليّ.. عليّ الأكبر. وفي القافلة هوادج كثيرة.. كثيرة جداً.. وأطفال..
القافلة تسير، والتاريخ يحبس انفاسه، وكلمات تتردد بخشوع، فتمتزج مع تمتمات النوق.
ـ ولمّا توجّه تِلقاءَ مَدْين قال عسى ربّي أن يهديَني سواءَ السبيل.
ـ الطريق محفوفة بالاخطار، فلو تنكبت الطريق.
قدر عجيب يسيّر القافلة. قافلة صغيرة تحاول تصحيح المسار الانساني.
الكلمات التي قالها الحسين ما زالت تدوّي في الآذان. الاهداف العظيمة.. الروح السامية في جلال الملكوت. كلماته تذهب مع نسائم الصحراء بذوراً تنبت في اعماق الارض.. هل يكون الموت هدفاً.. كيف تخرج الحياة من رحم الموت ؟.. واذا كان الموت هو النهاية لكل كائن، فلِم لانختار الطريقة التي سنموت بها ؟ هل يكون الموت جميلاً احيانا، لكي يقول الحسين: خُطّ الموت على وُلد آدم مَخَطّ القلادة على جِيد الفتاة، وما أولهني الى اسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف.
ـ ولكن، اذا كان هدفك الموت، فلِم تأخذ معك الاطفال والنساء ؟ واذا كانت الآفاق مظلمة، لماذا تصطحب كل هذا الحَشْد من الضعفاء ؟!
ـ شاءالله أن يراهنّ سبايا.. شاءالله ان يراني قتيلاً.. سوف اموت عطشاً.. سأسقط قرب نهر يموج بالمياه كأنّه بطون الحيّات.
ـ ماذا يريد الحسين ؟
ـ يريد أن يموت ظامئاً.
ـ لماذا ؟
ـ إنّها مشيئة الله!
ـ مشيئة الامّة..
القافلة تقترب من مكّة.. أُمّ القرى واد غير ذي زرع.. أول بيت وُضع للناس.. مبهط جبريل فوق جبل النور.. غار حِراء، حيث التقت السماء بالارض.. طفولة محمّد.. شبابه.. آخر النبوات في التاريخ.
المساء ينشر ظلاله الخفيفة.. وانوار واهنة تحاول أن تتلألأ كالنجوم.. أضواء مدينة حائرة هزّتها أنباء قادمة من دمشق. لقد هلك هرقل وجلس مكانه هرقل آخر.
شعبان يطوي ثلاثة من ايامه.. القافلة تدخل مكّة، وتلقي عصا الترحال عند البيت العتيق. الحسين يحنّ الى زيارة قبر جدّته خديجة الكبرى.. يذكر تضحياتها من اجل محمّد.. وهو يريد أن يواصل ذات الدرب.. يريد اعادة نهج النبي العظيم.
ـ ماذا تريد يا سيّدي الحسين.. ألا تبقى هنا في حرم الله ؟.
ـ انّهم لن يدَعوني أعيش بسلام.. انهم يريدون الفتك بي، حتى لو تعلقت بأستار الكعبة.. انهم يطلبون مني شيئاً عظيماً.. هل رأيت النخيل ينحني أو الجبال ؟ هيهات.. هيهات.
ـ ولِمَ العراق ؟.. أليس هناك مكان آخر ؟ العراق الذي قتل أباك واغتال أخاك، وسلّم المنبر لمعاوية!
ـ ولِم الذهاب الآن.. ألا تمكث قليلاً ؟
ـ إن لم اذهب اليوم ذهبتُ غداً، وان لم أذهب غداً ذهبت بعد غد، وما من الموت والله بُدّ.. وإني لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه.
تنبعث من الأرض أسئلة.. تتفجر علامات استفهام سرعان ما تتلاشى أمام كلمات سماوية كأنّها تأتي من وراء أستار الغيب.
ينظرون فلا يرون سوى بيارق أُمويّة.. سيوفاً تقطر غدراً وخناجر مسمومة.. أمّا هو فيرى ينابيع تتدفق.. انهاراً وسواقي.. انّه يرى ماوراء الآفاق.. يرى المستقبل القادم من رحم الايّام.
عجيب أمر هذا الرجل.. يحاول أن يلوي القدر.. أن يقهر كل شياطين الأرض.. أن يهزم نظاماً مدجّجاً بالسلاح.. كيف؟!
بقافلة صغيرة.. سبعين أو يزيدون.. اطفال ونساء.. وتصغي الصحارى لكلمات متمرّدة ثائرة.. كلمات تختصر النبوّات.. تبدأ ببسم الله .. مجراها ومرساها..
ـ هذا ما أوصى به الحسين بن علي الى اخيه محمّد بن الحنفية.
ان الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له، وأن محمّداً عبده ورسوله.. جاء بالحقّ من عنده وأنّ الجنّة حقّ، والنار حقّ، والساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور.
وإني لم أخرج أشِراً ولابطراً ولامفسداً ولاظالماً، وانّما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدّي.
أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي، وأبي علي بن أبي طالب.
فمن قبِلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين..
انطلقت الثورة وصدر بيانها الأول. أسلحتها الصبر والمقاومة والموت.
الموت سلاح.. بل حياة.. حياة.. كيف؟
ـ اجل.. إن من يموت كريماً سيحيا.. سيحيا إلى الأبد.. هكذا علّمني أبي، قال على شاطئ الفرات بصفين:
الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين.


* * *

قصر الإمارة يجثم فوق الكوفة.. نسر هائل على فريسته .. غراب أُسطوري ينعب فتطير الرؤوس وتطيح الايدي..
ذئاب جائعة تعوي من بعيد.. وكلاب مسعورة تنبح.. وليل حالك مليء بالاسرار والغموض.. ورجل أرقط مجهول النسب اسمه ابن زياد بن ابيه.. ابن الليلة الماجنة. الرجل الارقط بدا مفزعاً تلك الليلة.. شيطاناً مريداً يفكّر ويدبّر، فقُتل كيف فكّر.. يتشبث بمخالب نسر.. يهدّد بجنود قادمين من الشام.. فتطيع القبائل، وتنحني الرقاب.. وتتساقط الرؤوس..
التفت نحو هاني بن عروة، وصرخ بعصبية:
ـ أتيتَ بابن عقيل الى دارك، وجمعت له السلاح؟
قال هاني بثبات:
ـ أفضّل لك أن تمضي الى الشام، فقد جاء من هو أحقّ بالامر منك ومن صاحبك.
وتفجّر ابن زياد غضباً:
ـ والله لاتفارقني حتّى تأتيني به.
وجاءة الجواب هادئاً ثابتاً.. ثبات الجبال:
ـ والله لو كان تحت قدميّ ما رفعتهما عنه.
ـ لأقتلنّك.
ـ اذن تكثر البارقة حولك.
هجم الارقط على زعيم « مراد » وجرّه من شعره، وسدّد له ضربة هشمت أنفه.
يا كوفة.. يا مدينة عجيبة.. ايتها المتقلّبة كلَّ يوم.. لِمَ تُضيعين ابناءك ؟ اين مسلم ايتها الغادرة ؟!..
خيول الدوريات تجوس المدينة الخائفة.. الخائنة.. يبحثون عن رجل مكّي مدني اسمه مسلم.. مسلم حقاً.
ـ لِم يبحثون عنه ؟..
ـ انه يحمل اشياء ممنوعة.. اشياء خطيرة. يحمل سيفاً علَوياً.. وقلباً حسينياً.. يريد تهريب الثورة..
ـ في هذا الليل والناس نيام ؟!
العيون الحمراء ترقب المدينة.. ومسلم في بيت طوعة.. رجل انقطعت به السبل، وضاقت عليه الارض بما رحبت، ولاملجأ له سوى مهنّد في يمينه.
وطوعة.. المرأة العجوز.. تتأمل اسداً جريحاً من ليوث محمّد.. يقبض على قائمة سيفه. لقد طلع الفجر، وآن للنهاية أن تبدأ.
ـ انّهم كثيرون.. مئة أو يزيدون.
ـ لاعليكِ يا أمَة الله. لقد حان اللقاء. رأيت عمي اميرالمؤمنين ـ في المنام ـ يقول لي: انت معي غداً.
اقتحمت الذئاب منزل طوعة، ولمع السيف العلوي كبرق سماوي.. ودوّى رعد مهيب له صوت مسلم:


اقسمـت لا أُقتـل إلاّ حُرّا وإن رأيتُ الموت شيئاً نُكرا

الرجل الغريب القادم من رمال الجزيرة، يقاتل لوحده في المدينة المشهورة بالغدر، والرجال الذين ابتسموا له بالأمس يكشّرون عن انياب مسمومة.. ملوّثة بالصديد.
وصرخ «ابن الاشعث» مستمدّاً:
ـ الرجالَ.. الرجال.
ويستنكر قصر الامارة:
ـ ويلك انه رجل واحد!
ـ اتظن انك ارسلتني الى بقال من بقّالي الكوفة!.. انه سيف من اسياف محمّد.
وعجزت السيوف أن تكسر سيفه.. والرجل ما يزال يقاتل.. يقاتل بضراوة اسطورية.. الجراح النازفة.. الظمأ.. الإعياء.. غامت المرئيات أمام عينيه.. وتوالت الطعنات.. طعنات الغدر. الخناجر المسمومة تنغرز في جسده. وتهاوى الجبل. الإرادة الفولاذية عجز الجسد عن مواكبتها. تراخت قبضته. ولمّا انتزعوا سيفه بكى. وتعجّب الذين حوله.. لم يدركوا سرّ البكاء.



اللهم صل على محمد وآل محمد الأوصياء الراضين المرضيين بأفضل صلواتك وبارك عليهم بأفضل بركاتك
والسلام عليهم وعلى أرواحهم وأجسادهم ورحمة الله وبركاته



يتبع ...







رد مع اقتباس
قديم 10-15-2015, 06:48 AM   رقم المشاركة : 3
صلاتي حياتي
(مشرفة منتدى الإمام الحسين عليه السلام)

الملف الشخصي




الحالة
صلاتي حياتي غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي رد: الم.. ذلك الحسين (رواية)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم


* * *

القافلة تطوي الصحراء.. والنجوم المحتشدة في السماء ترسل اضواء واهنة، فتبرق ذرّات الرمال، والقافلة التي سبقت قوافل الحجيج في مغادرة مكّة تنساب في بطون الاودية .. وخشخشة الاشواك تبوح باسرار الليل.
وصادفهم رجل في « الصفاح » يريد العمرة.
ـ من الرجل ؟
ـ الفرزدق بن غالب.
ـ هذا نسب قصير.
ـ انت اقصر نسباً مني.. انت ابن رسول الله.
ولاح سؤال عن الكوفة.. عاصمة ابيه واخيه.
ـ قلوبهم معك وسيوفهم عليك.
اية قلوب تلك لاتنقاد لها السواعد.. القلوب الخائفة قلوب ميتة.. انها قطعة لحم باردة.
وفي « ذات عرق » كان الحسين جالساً يقرأ كتاباً بين يديه.. وبين يديه ايضاً الصحراء المترامية... صحراء لانهاية لرمالها.. وبين يديه وقف التاريخ حائراً لا يدري أين مساره. ومرّ به رجل كان في الكوفة منذ أيام.. .
هزّ الرجل رأسه آسفاً:
ـ السيوف مع بني امية والقلوب معك.
ـ صدقت.
ـ ماذا تقرأ يابن رسول الله؟
ـ كتاباً من أهل الكوفة وهم قاتلي.. فاذا فعلوا ذلك لم يدَعوا لله محرّماً الاّ انتهكوه.
ـ أُنشدك الله في حرمة العرب.
ومضى الرجل الى وجهته.. ومضى التاريخ بعد أن عرف مساره.. كان يسير باتجاه يختلف قليلاً عن جهة الكوفة. هناك بمحاذاة النهر سيكون اللقاء.. سيبني التاريخ في تلك البقعة إحدى مدنه الخالدة.
وفي «الخزيمية» لوت النوق اعناقها.. توقفت هنيهة.. أصغت الى هاتف عجيب:


ألا يـا عيـن فاحتفلي بجهدِ فمَن يبكي على الشهداء بعدي
علـى قوم تسـوقهـمُ المنايا بـأقدار الى إنـجـاز وعدِ

وتمتم الحسين:
ـ القوم يسيرون والمنايا تسري اليهم.
ـ ألسنا على الحق يا أبي ؟
تأمل ابنَه الاكبر.. فحنّ الى جدّه.. .
ـ بلى والذي اليه مرجع العباد.
ـ يا أبتِ اذن لانبالي.
وفاضت عيناه شوقاً الى جدّه.
وفي « الثعلبية » قال الحسين لرجل تاهت به السبل.. لايدري أي الطريقين يسلك:
ـ يا أخا العرب! لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبريل في دارنا.. أفعلموا وجهلنا ؟! هذا ممّا لا يكون!
ومضى الرجل حائراً لايدري أي الطريقين يعني النجاة.. طريق الحسين أم طريق الحياة.
ومضت القافلة في طريقها الى الكوفة كانت الخطى تتجه، ولكن القلوب كانت تهفو الى مدينة أخرى.. مدينة لم تولد بعد.
كبّر صاحب للحسين:
ـ رأيت النخيل.. نخيل الكوفة.
استنكر آخر:
ـ ما بهذا الموضع نخل.. وانّما هو أسنّة الرماح وآذان الخيل.
ونظر الحسين:
ـ وأنا اراه ذلك.. أليس هنا ملجأ ؟
ـ نعم « ذو حسم » جبل عن يسارك.
وأناخت النوق.. هوَتْ بأثقالها الى الارض.. توقّفت سفُن الصحراء. توقفت لتتأكد من اتجاه البوصلة.. أو لتواجه القراصنة.. قراصنة التاريخ.


* * *

الكوفة خائفة. جلست ذليلة في حضرة ابن زياد.. وزياد يشير بسوطه.. فتتساقط الرؤوس.. وتطيح الايدي. وانحنت الرقاب « للأرقط ». لقد انتصر بجيشه الوهمي القادم من الشام. الكوفة كلّها أسيرة في قبضته.. تنقاد له طائعة. يصرخ فيها:
ـ اقتلوا آل الحسين.. إنهم اناس يتطهّرون.
وينتظم العبيد. عبيد الدنيا جيشاً عرمرماً يقوده «الحرّ».
المهمة خطيرة.. القبض على القافلة.. فارس يقود ألف فارس مدجّج السلاح يجوبون الصحراء بحثاً عن قافلة صغيرة..
قدر عجيب ساق هذا الرجل.. جعله في طليعة الذين يريدون اغتيال الحرّية.. وهو «الحرّ» كما سمّته أمّه..
والحرّ يجوب الصحراء في مهمّة كان يلعنها في اعماق نفسه.. الرمال الممتدة الى ما لانهاية تدعوه الى الرحيل.. الرحيل الى الشمس، وكانت الارض تشدّه اليها كما شدّت ألفاً يسيرون خلفه.
ويسمع الحرّ صوتاً عجيباً.. صوتاً قادماً من وراء الرمال:
ـ أبشرْ يا حرّ بالجنّة.
ـ أية جنّة وأنا سائر لقتال سبط النبي!
الخيل تلهث.. أضرّ بها الضمأ.. والصحراء تلتهب.. تتوهج.. تشتعل جحيماً لا يُطاق والحرّ يُبشَّر بالجنّة. وتبدو في الافق قافلة تتجه نحو ذي حسم (الجبل الصغير).
الشمس في كبد السماء تتشظى حمماً.. تتفجّر لهباً، والرمال تشتعل جمراً، والخيل تلهث.. تهوّم عيونها نحو سراب بعيد يحسبه الضمآن ماء. وقف الحرّ قبال الحسين في الظهيرة العظمى.. الخيول تنظر الى الحسين .. تشمّ رائحة الماء، وتحمحم.
هتف الحسين:
ـ اسقوهم وارشفوا الخيل..
ومرّت مئات الخيول الظامئة.. تعبّ من الماء.. وتطفئ لهب الصحراء.
ورأى الحسين فارساً وصل متأخراً، وقد أضرّ به العطش، فقال بلغة حجازية:
ـ أنخ الراوية.
ـ .. ؟!
ـ أنِخ الجمل.
اناخ الظامئ الجمل. ولما أراد أن يشرب، جعل الماء يسيل من السقاء، فقال الحسين بلغة حجازية:
ـ أخنِث السقاء.
فلم يدرِ الرجل ما يصنع، فعطف الحسين له السقاء حتّى ارتوى، وسقى فرسه.
وساد صمت رهيب رغم حمحمة الخيل.. وكان الجميع يتساءلون عن سرّ وجودهم في تلك البقعة الملتهبة من دنيا الله. وأذَّن «ابن مسروق» للصلاة، فقال الحسين:
ـ اتصلّي بأصحابك.
ـ لا، بل نصلّي جميعاً بصلاتك.
وصلّى الحسين بالجموع.. وصلّى خلفه ألف فارس كانوا يريدون القبض على الرجل القادم من الحجار. وقال الحسين بعد الصلاة:
ـ نحن أهل بيت محمّد أولى بالأمر من هؤلاء المدّعين.. السائرين بالجور والعدوان، فإن أبيتم إلاّ الكراهية لنا، والجهل بحقنا، وكان رأيكم على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم.. .
تساءل الحرّ:
ـ ما أدري، ما هذه الكتب التي تذكرها ؟!
فنظر الحسين الى «ابن سمعان»، فأحضر خرجَين مملوءين كتباً.. رسائل بالآلاف.. كتبها الكوفيون؛ كلّها تقول أن أقدم علينا ليس لنا إمام غيرك.
تمتم الحرّ خجلاً:
ـ لإني لست من هؤلاء.. واني أُمرت أن أُقْدمك الكوفة على ابن زياد.
قال صاحب الأنف الاشمّ:
ـ الموت أدنى اليك من ذلك.
القافلة تريد أن تستأنف رحلتها.. سفن الصحراء ترفع مراسيها. و«الحرّ» يعترض:
ـ انا أُنفّذ أمر الخليفة.
ـ ثكلتك امّك.
ـ اما لو غيرك من العرب يقولها لي ما تركت ذكر امّه كائناً من كان.. ولكن مالي الى ذكر امّك من سبيل.. فأمّك الزهراء البتول.
وأردف الحرّ متوسّلاً:
ـ لتسلك طريقاً وسطاً.. لا يُدخلك الكوفة ولايردّك الى المدينة، حتّى اكتب الى ابن زياد، فلعلّ الله يرزقني العافية.
كانت القافلة تسير باتجاه بوصلة القدر.. باتجاه مدينة تعيش في رحم المستقبل.
كانا يسيران على مهل.. يسيران في طريق واحد.. طريق رسمته الاقدار.
همس الحرّ بحزن:
ـ اني اذكرّك الله في نفسك، فانّي اشهد لئن قاتلتَ لتُقتلَنَّ.
وادرك الحسين ماتموج به أعماق « الحرّ »:
ـ أفبالموت تخوّفني؟!


سأمضي وما بالموت عارٌ عـلى الفتى اذا مـا نـوى حـقـاً وجاهد مـسلما
فـإن عـشت لم أندم وان متُّ لم أُلَم كـفى بـك ذلاً أن تـعيـش وتُرغما

وادرك الحرّ هدف الحسين.. الغاية التي يتحرك نحوها. ابتعد عنه.. أخذ ناحية أخرى من الطريق.. يسايره فيها من بعيد.. ولكنه شعر بنفسه تهفو الى الرجل السائر نحو الموت.. الرجل الذي قال من قبل: من لحق بنا استُشتهد، ومن تخلّف عنا لم يبلغ الفتح.


* * *



اللهم صل على محمد وآل محمد الأوصياء الراضين المرضيين بأفضل صلواتك وبارك عليهم بأفضل بركاتك
والسلام عليهم وعلى أرواحهم وأجسادهم ورحمة الله وبركاته



يتبع ...






رد مع اقتباس
قديم 10-17-2015, 05:52 AM   رقم المشاركة : 4
صلاتي حياتي
(مشرفة منتدى الإمام الحسين عليه السلام)

الملف الشخصي




الحالة
صلاتي حياتي غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي رد: الم.. ذلك الحسين (رواية)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم


* * *

ما بين « عين التمر » و« القريات »، لاحت من بعيد خيمة وحيدة.. في خارجها رمح مركوز وفرس تحمحم. وفي داخل الخيمة رجل وحيد.. فرّ من الكوفة.. يريد أن ينأى بنفسه بعيداً عن قدر رهيب. فجاءه رجل من أقصى الجزيرة يسعى.
ـ ماذا تريد ؟!
ـ اني جئتك بهدية وكرامة. هذا الحسين يدعوك الى نصرته.
أجاب الرجل الوحيد:
ـ والله ما خرجت من الكوفة إلاّ لكي لا أراه.. لعلّك لم تسمع الاخبار.. لقد خذلته شيعته.. قُتل « مسلم بن عقيل » و« هاني بن عروة » ورجال آخرون، ولا أقدر على نصره..
وأردف وهو يطرق برأسه الى الأرض:
ـ ولست أحب أن يراني وأراه.
ولكن الحسين أراد أن يراه فمضى اليه.. ورأي « الجعفي » لمّة من الناس تهفو اليه.
رجل ذرّف على الخمسين وحوله رجال وصبية وأطفال قادمون، فأوسع لهم في المجلس، وجلس الجعفي قبال رجل لم يره من قبل.. تموج في جبينه طيوف النبوّات. أراد أن يكسر حاجز الصمت، فقال مبتسماً وهو يشير الى لحية تشبه ليلة غاب فيها القمر:
ـ أسَواد أم خضاب ؟!
ـ عجّل عليّ الشيب يا ابن الحرّ.
ـ خضاب اذن!
ـ يا ابن الحرّ.. ألا تنصر ابن بنت نبيّك وتقاتل معه ؟
ـ إنّ نفسي لاتسمح بالموت.. ولكن فرسي «الملحقة» هذه لك.. والله ما طلبت عليها شيئاً قط الاّ لحقته.. ولاطلبني أحد الاّ سبقته..
ـ أمّا اذا رغبت بنفسك عنّا، فلاحاجة لنا في فرسك.
ونهض الحسين. كان يريد أن يرفع الرجل.. أن يسمو به، ولكنه اثّاقل الى الأرض.
وفي آخر الليل أمر الحسين فتيانه بالاستقاء والرحيل. ونهضت النوق.. يمّمت وجوهها نحو الارض التي بورك فيها للعالمين.. وكان هناك ألف ذئب تتوهج عيونها غدراً.. القافلة تسير.. تشقّ طريقها في الظلام.. تتبعها قطعان الذئاب وهي تعوي في آخر الليل.
لاح راكب من بعيد.. مدجج بالسلاح. كان رسولاً من ابن زياد الى « الحرّ » يحمل اليه كتاباً خطيراً. قرأه الحرّ بصوت يسمعه الحسين:
ـ جعجعْ بالحسين حين تقرأ كتابي، ولا تُنزله الاّ بالعراء على غير حصن ولا ماء.
قال الحسين:
ـ دعنا ننزل « نينوى » أو « الغاضريات ».
ـ لا أستطيع. فحامل الكتاب عينٌ علَيّ.
قال « زهيربن القين »، وكان رجلاً صحب الحسين على قدر:
ـ يابن رسول الله! دعنا نقاتلهم.. إن قتال هؤلاء أهْون علينا من قتال من يأتينا بعدهم. فلعمري ليأتينا ما لا قبل لنا به.
ـ ما كنت أبدهم بقتال.
ـ هاهنا قرية و« الفرات » يحدق بها من ثلاث جهات.
ـ ما اسمها ؟.
ـ « العقر ».
ـ نعوذ بالله من العقر.
والتفت الحسين الى الحر:
ـ سِر بنا قليلاً.
ومضت القافلة في طريقها.. يتبعها ألف ذئب أغبر.
اهتزّت البوصلة.. تعثرت النوق.. ووقف جواد الحسين.. تسمّر في مكانه.. رفعت النوق رؤوسها.. تلفّتت.. لعلّها شمّت رائحة وطن تبحث عنه. سأل الحسين:
ـ ما اسم هذه الأرض ؟
ـ الطّف.
ـ فهل لها اسم آخر ؟
ـ كربلاء.
تجمّعت الدموع في عينيه كغيوم ممطرة.
ـ أرض كرب وبلاء.. هاهنا محطّ ركابنا وسفْك دمائنا. بهذا أخبرني جدّي رسول الله.
وفي تلك الليلة، لاح هلال « المحرّم » حزيناً كقارب وحيد.. تائه في بحر الظلمات.
تعالت أصوات رجال يدقّون أوتاد الخيام، وضحكات بريئة لأطفال يلهون في الرمال.. ونسائم عذبة تهبّ من ناحية « الفرات »؛ وكان الحسين واقفاً يتأمّل الأفق البعيد.. يحدّق في آخر الدنيا.


* * *

مادت الكوفة بأهلها، واهتزّت الارض تحت الأقدام. كتائب جنود مذعورين تتحرك في كل اتجاه.. عيون زائغة لأشباه رجال تحمل اسلحة القتل.. تنطلق الى خارج المدينة.
« زجربن قيس » يقود خمسمئة فارس.. يتّجه صوب جسر « الصراة ».
وخرج « الشمر » في أربعة آلاف مقاتل، و« الحصين بن نمير » في أربعة آلاف، و« شبث بن ربعي » في ألف، و« حجّار بن أبجر » في ألف.. وتتابعت الكتائب تلو الكتائب.. جنود يشبهون في ذلّتهم الاسرى.. قلوبهم مع الحسين وسيوفهم تستهدف قلبه.
حيّات وأفاعٍ تتلوّى.. تزحف باتجاه « الفرات ». وبدا النهر أفعى خرافية تتمدد وسط الرمال..
وفي الكوفة، مطرت السماء ذهباً يخطف الأبصار ويسلب الألباب، واجتمع زعماء «القبائل» تحت المطر، فلم يبرحوا حتّى طمّت رؤوسهم بالذهب، والأرقط ينثر الأموال ويوفّر العطاء.. يلقي حباله وعصيّه، فاذا هي حيّات وعقارب تسعى.
وافتتنت « المومس » يابن زياد، فنسيت ذكر الحسين. قالت بخلاعة:
ـ مالي والدخول بين السلاطين..
قهقهه « الأرقط ». دوّت ضحكة شيطانية في أرجاء القصر.. جيوشه تحاصر القافلة.. تمنعها من العودة.
ـ وقعت في قبضتي يا حسين.. ها أنا أرتقي قمّة المجد.. سيدخل بوابة قصري قائلاً: حطّة. أنا ابن زياد ابن .. ابي سفيان.. صخر بن حرب.
أفتر الرجل الأبرص، فظهرت أنياب حادّة.
ـ لا تقبل من الحسين الاّ النزول على حكمك. إنّه الآن في أرضك، فضيّق عليه الخناق.
ما لهذا الأبرص؟!.. صوته كفحيح الافعى. الخنزير يريد للنخل أن يركع.. والنخل الباسق يعشق الفضاء، والاّ مات واقفاً.
الأرقط يجيد « الشطرنج ». ينقل جنده وقلاعه.. يحرّك فِيَلة وخنازير وبيادق تحلم بحكم « الري وجرجان ».
الأرقط يعرف « أصول اللعبة ». من يمينه تتدلّى مشانق وحبال، ومن شماله يسيل ذهب اصفر يأخذ بالألباب. البيادق الفئران تفرّ مذعورة.. تحمل سيوفاً خشبية.. وتمتلئ جيوبها فضة أو ذهبا..
والأرقط الذي تلبّس وجهه جلد الأفعى يتمدّد في « النخيلة »، يراقب بيادقه بحذر وترقّب. هناك رجل سيدمّر لعبته.. سيلقف سيفه كلّ حباله وعِصيّه.. وجيوشه الوهمية.
صرخ الأرقط بالرجل الأبرص:
ـ اكتب «لابن سعد»: اما بعد؛ انّي لم أبعثك الى الحسين لتكفّ عنه ولالتمنّيه السلامة. انظر، فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي فابعث بهم اليّ، وأن أبَوا فازحف اليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم.
كخنزير راح الشمر يجري صوب أحلامه المريضة.. تفوح منه رائحة الموت، وآلاف الضحايا ترقد في عينه المنطفئة.. ومن عطفَيه تنبعث حرائق ودخان، وروائح أجساد محترقة.
سلّم الكتاب الي « قائد الجيش »، وراح ينظر اليه خلسة بعين نصف مغمضة. أما عينه الاخرى فقد بدت هُوّةً سحيقة تعشعش فيها العناكب.
ادرك الرجل الذي ناهز السبعين أن الأبرص قد جاء يسرق منه أحلامأ قديمة.. جميلة تحكي جمال مدن « الري » و« جرجان ».
ـ قبّحك الله وقبّح ما جئت به. والله لا يستسلم الحسين. إنَّ نفس أبيه بين جنبيه.
ـ فخلّ بيني وبين العسكر.
ـ بل أنا الذي أتولّى ذلك.
عقربان يتنافسان في الصحراء.. ينعب في صدريهما بوم وغراب.. يتنافسان على الفوز في سباق من الخسران المبين.



اللهم صل على محمد وآل محمد الأوصياء الراضين المرضيين بأفضل صلواتك وبارك عليهم بأفضل بركاتك
والسلام عليهم وعلى أرواحهم وأجسادهم ورحمة الله وبركاته


يتبع ...






رد مع اقتباس
قديم 10-18-2015, 06:33 AM   رقم المشاركة : 5
صلاتي حياتي
(مشرفة منتدى الإمام الحسين عليه السلام)

الملف الشخصي




الحالة
صلاتي حياتي غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي رد: الم.. ذلك الحسين (رواية)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم


***

تجمعت في السماء النُّذُر.. وإرهاصات حرب مدمّرة تتراكم، كأكوام من الغيوم المشحونة بآلاف الصواعق.. وليل الصحراء مليء بالاسرار.
خرج رجل من بين مضارب الخيام.. عيناه تتألّقان تألّق النجوم.. وخرج رجل يتبعه.. يخاف عليه الغدر.
ـ مَن الرجل ؟!
ـ نافع بن هلال الجملي.
ـ ما الذي أخرجك في جوف الليل؟.
ـ أفزعني خروجك يا ابن النبي.. والظلام يخفي سيوفاً مسمومة وخناجر.
ـ خرجت اتفقّد التلاع والروابي، مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون.
شدّ الحسين على يد صاحبه وقال:
ـ هذه هي الارض التي وُعدت بها. ونظر الى صاحبه بإشفاق وأردف:
ـ الا تسلُك بين هذين الجبلين وتنجو بنفسك ؟
كظامئ اكتشف ينابيع الماء، ألقى نافع نفسه على ينبوع الخلد وحياة لاتفنى:
ـ ثكلتْني أمي يا سيّدي.. والله الذي مَنّ بك عليّ! لافارقْتُك أبدا.
ماذا رأى « نافع » تلك الليلة ؟! ماذا اكتشف لكي يفرّ من الدنيا.. لكي يسافر مع الحسين.. لعلّه شاهد في عينيه جنّة من أعناب ونخيل تجري من تحتها الأنهار..
وعاد الحسين الى مضارب القافلة، وفي عينيه تصميم وعزم..
الجيوش التي أحدقت بالفرات تسدّ الأفق.. تموج كالسيل.. كلاب مسعورة وذئاب تريد الفتك.. قبائل وحشية، أسكرتها نشوة السلب والنهب.. ما عساها تفعل القافلة في مهبّ إعصار فيه نار؟! سبعون سنبلة خضراء تحدق بها أسراب الجراد..
نظر الحسين الى آلاف السيوف التي جاءت تتخطّفه، وقال بحزن:
ـ الناس عبيد الدنيا، والدِّين لعق على ألسنتهم يحوطونه مادرّت معايشهم.
وتلفّت خلفه، فلم يجد الاّ ثلّة من المؤمنين؛ سبعون أو يزيدون، ومثلهم معهم من الضعفاء صبية ونساء.. وطريقان لاثالث لهما: السلّة أو الذلّة.
ـ هيهات منّا الذلّة.. الموت أولى من ركوب العار.
ـ لسوف يقودون بنات محمدٍ سبايا!
ـ العار أولى من دخول النار.
الذئاب الجائعة تعوي.. تتحفّز للفتك، والقبائل تحلم بالغزو وليالي السلب المجنونة.
شمّت النسور من بعيد رائحة معركة وشيكة، فراحت تدور في السماء.. تترقب صيدها بفارغ الصبر.. بدت وكأنها مقبرة هائلة فاغرة الأفواه..
القبائل تشاورت حول الأسلاب.. تفاهمت.
وقف « الأبرص » على الميسرة، وانفرد « ابن الحجاج » بالميمنة، فيما وقف بينهما رجل قارب السبعين يحلم بـ « الري » و« الجرجان ».
ـ ماذا أعددت لهؤلاء يا سيدي الحسين ؟
ـ سيف محمّد.
ـ وما ذا ؟
ـ ورجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
ـ وما ذا ؟
ـ والأجيال.
وشوهد الحسين يجول بفرسه.. يرسم خطّة المواجهة.
ـ قارِبوا بين الأبنية.
تعانقت الخيام ببعضها.. تلاحمت كالبنيان المرصوص.
وشوهد الحسين وأصحابه يحفرون الخنادق خلف الخيام ويملأونها حطباً.
ـ كيلا تقتحمه الخيل..
ـ ويكون القتال في جبهة واحدة.
الاطفال ينظرون ـ بحزن ـ جهة الفرات. شفاه يابسة تحلم بالندى.. وفتيات بلغتْ قلوبهن الحناجر يصغين ـ برعب ـ الى طبول قبائل تحلم بالغزو والسبي؛ ونسور مجنونة تحوم.. تنتظر لحظة الانقضاض. هي ذي لحظات الغروب تتراكم ملتهبة.. والفرات يتأجّج خلف ذُرى النخيل المتّقدة.. الليل يوشك أن يهبط والحمرة القانية تتحول الى رماد.. الظلام يجثم فوق الرمال كغراب في مساء خريفي. الحزن يجوس خلال الخيام.. ينشر ظلّه الثقيل.. وآهات تتصاعد من كل مكان.. وأمنيات خضراء تحلم بالمطر والخصب والحياة.
دخل الحسين خيمة أخته زينب.. المرأة التي شهدتْ ـ من قبل ـ مصرع أبيها واغتيال أخيها.. فجاءت تحرس آخر أصحاب الكساء. تريد أن تشاركه في كل شيء.. تقتسم معه الموت والخلود.
نسيم هادئ حرّك طرف الخيمة.. ربّما مسح عليها مواسياً قبل هبوب العاصفة.
قالت زينب:
ـ هل استعلمتَ من أصحابك نيّاتهم، فإنّي أخشى أن يُسلموك عند الوثبة.
ـ والله لقد بلوتهم، فما وجدت فيهم الاّ الأشوس الأقعس.. يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل الى محالب امّه.
وكان نافع يصغي الى هموم زينب.. الى مخاوف عقيلة بني هاشم. أسرع نافع الى رجل ذرّف على الستين بأعوام:
ـ هلمّ يا حبيب .. هلّم الى زينب.. انها تخشى الغدر.. وقد اجتمعت النسوة عندها يبكين.
بريق نفّاذ اتّقد في العينينِ الأسديتَين.. توهجات الغضب المخزون اشتعلت كلّها في لحظة واحدة.. هتف حبيب:
ـ يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة!
انبعثت من بين الخيام سيوف ورجال. العزم المشتعل في العيون يكاد يضيء التاريخ، والسواعد المفتولة توشك أن تلوي الاقدار.
وقف الرجال إزاء خيمة يعصف بها القلق والخوف.
هتف حبيب:
ـ يا معشر حرائر رسول الله! هذه صوارم فتيانكم. آلوَا ألاّ يغمدوها الاّ في رقاب من يريد السوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم أقسموا ألاّ يركزوها الاّ في صدور من يفرّق ناديكم..
ومن قلب الخيمة الحزينة، ينبعث صوت استغاثة.. استغاثة ما تزال حتى اليوم تستفهم التاريخ والانسانية. صوت امرأة خائفة تنشد حقّها في السلام.
ـ ايّها الطيّبون! حاموا عن بنات رسول الله.
لو كانت الغيوم حاضرة لتفجرّت مطراً ساخناً كدموع الأطفال.
وبكى الرجال.. بكت العيون المتأجّجة وهي تتطلّع إلى مذبحة مروّعة ستحدث بعد ساعات.
وفي سحر تلك الليلة، رأى الحسين ـ في عالم الأطياف ـ كلاباً تنهشه.. تتخطف جسده، وأشدّها كان الأبقع..


* * *

فجر يشبه رماداً ذرّته الريح في العيون، والفرات ما يزال يجري متلوّياً كحيّة تسعى، والقبائل التي باتت تحلم بالأسلاب استيقظت ترنو بعيون متنمّرة الى مضارب خيام بعيدة.
اختلطت أصوات عديدة؛ رغاء جِمال.. وصهيل خيول.. وقعقعة سيوف ورماح ودموع.
والحرّ الذي أوقع بالقافلة، وساقَها الى أرض الموت، يقف مشدوهاً لمنظر جموع غفيرة.. جاءت لقتل سبط النبي. لم يخطر بباله أبداً أن تنحدر الكوفة لقتل «المخلّص»..
حرّك فرسه الى مقدّمة الصفوف، وراح يحدّق في الأفق حيث يقف الحسين. شاهده من بعيد يرتّب مقاتليه. انّهم لايزيدون على السبعين أو الثمانين. هل سيقاتل الحسينُ حقاً ؟ هل يدخل معركة خاسرة ؟
وسمع الحرّ الحسين يخطب بجيشه الصغير:
ـ ان الله تعالى قد أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم، فعليكم بالصبر والقتال.. .
رآهم ينقسمون الى ثلاث فرق؛ الجناح الأيمن بقيادة « زهير بن القين »، والجناح الأيسر بقيادة « حبيب بن مظاهر ». أمّا الحسين فقد ثبت في القلب.. وتسلّم الرايةَ «أبوالفضل» فبدا والراية تخفق فوق رأسه جيشاً لوحده.
القبائل تزحف باتجاه الخيام.. والخيول تجول.. تثير غباراً والقلوب الصغيرة في حنايا الخيام تخفق بشدّة.. يا له من يوم عصيب!.
أصدر الحسين أمره بإضرام النار في الخندق.. فتصاعدت ألسنة اللهب.. وتراجعت الخيول.. فرّت مذعورة من خطّ النار.
اغتاظ « الأبرص » من هزيمة فرسانه، فصاح بنفاق:
ـ يا حسين، تعجّلت بالنار قبل يوم القيامة!
سأل الحسين مستوثقاً:
ـ من هذا ؟! كأنّه شمر بن ذي الجوشن!
ـ نعم.. إنّه الشمر.
انطلق صوت الحسين:
ـ يابن راعية المعزى! أنت أولى بها منّي صليّاً.
وضع « مسلم بن عوسجة » سهماً في كبد القوس.. استهدف الأبرص الذي باع نفسه للشيطان. وفي اللحظة الاخيرة، تدخّل الحسين قائلاً:
ـ أكره أن أبدأهم بقتال.
تذكّر الحسين كيف كان الأبقع ينهش جسده بوحشية. رفع يديه الى السماء.. الى العالم اللانهائي .. شاكياً ويلات الارض. كانت كلماته تنساب كنهر بارد.. نهر قادم من جنات عدن:
ـ اللّهمّ أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدّة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدّة.. كم مِن همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ أنزلتُه بك وشكوته اليك؛ رغبةً منّي اليك عمّن سواك، فكشفتَه وفرّجته. فأنت وليّ كلّ نعمة ومنتهى كل رغبة.
القبائل تزداد ضراوة.. والسيوف تبرق من بعيد.. تقطر حقداً ونذالة.. والحرّ يتقدّم قليلاً قليلاً. راح ينظر الى الحسين الذى ركب ناقته.. يريد أن يخطب بالقبائل المحيطة به. أرهف الحرّ سمعه لهذا القادم من اقصى الجزيرة يحمل معه كلمات محمّد وعزم عليّ.
استوى الحسين على ناقته، فبدا كنبيٍّ يعظ قومه:
ـ ايّها الناس! اسمعوا قولي ولاتعجلوا حتّى أعظكم بما هو حق لكم علَيّ، وحتى اعتذر اليكم من مَقدمي عليكم. فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي وأعطيتموني النصَف من انفسكم كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل. وإن لم تقبلوا منّي العذر ولم تعطوا النصَف من انفسكم فأجمِعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غُمّة ثمّ اقضوا إليَّ ولا تُنظرون. إنّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين.
اختلطت الكلمات مع بكاء مرير انبعث من قلب الخيام...
توقف الحسين عن إلقاء الخطاب.. أمر أخاه « أباالفضل » وابنه « علياً الأكبر »:
ـ سكّتاهنّ، فلعمري لَيكثر بكاؤهن..
عاد الصمت ثقيلاً.. سكوت عجيب يهمين على كل شيء ما خلا ريحاً خفيفة كانت تحمل كلمات الحسين:
ـ ايّها النّاس! إنّ الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرِّفةً بأهلها حالاً بعد حال. فالمغرور من غرّته، والشقي من فتنته. فلاتغرّنّكم هذه الدنيا فإنّها تقطع رجاء من ركن اليها، وتخيّب طمع من طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته. فنعم الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد، ثمّ انّكم زحفتم الى ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم. لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم.. فتبّاً لكم ولما تريدون. إنّا لله وانا اليه راجعون.. هؤلاء قوم كفروا بعد ايمانهم، فبُعداً للقوم الظالمين...
الكلمات تخترق الآذان .. تتغلغل في القلوب. شعر الحرّ بأن زلزالاً يضرب دنياه. راح يصغي الى دويّ الأنقاض وهي تتراكم في اعماقه:
هل أنا في كابوس ؟.. ماذا أرى ؟.. ماذا أسمع ؟ ربّاه ماذا افعل ؟!
راكب الناقة مايزال يرسل كلمات يبعثها مع الريح.. على أجنحة الفكر..
ـ ايّها الناس! انسبوني من أنا، ثمّ ارجعوا الى انفسكم وعاتبوها وانظروا، هل يحلّ لكم قتلي.. ألست أنا ابن بنت نبيكم؟ وابن وصيه وابن عمه؟ وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله؟.. أو ليس حمزة سيّدالشهداء عمَّ أبي ؟ أو ليس جعفر الطيار في الجنّة عمّي؟.. أو لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنّة ؟ فإن صدّقتموني بما أقول، وهو الحق، واللهِ ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم. سلوا « جابر بن عبدالله الانصاري » و« أبا سعيد الخدري » و« سهل بن سعد الساعدي » و« زيد بن أرقم » و« أنس بن مالك » يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي. أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي ؟. صرخ صوت شيطاني يريد أن يبتلع كلمات الانبياء. صرخ الابرص:
ـ إنّا لاندري ما تقول ؟!
هتف حبيب، وكان رجلاً على أعتاب السبعين:
ـ أشهد أنّك صادق ماتدري ما يقول. قد طبع الله على قلبك.
البركان الثائر يستأنف إرسال حممه:
ـ فإن كنتم في شكّ من هذا القول، أتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم، فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويْحَكم! أتطلبوني بقتيل لكم قتلته! أو بمال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة ؟!
وقفت القبائل عاجزة. إنّ في طينة البشر قابليه الانحطاط.. الانحطاط حتّى المسخ.. قابلية تشبه الجاذبية في الاجسام. الكوفة مثقلة بالاثم والغدر.. قلبها مع الحسين وسيفها يمزّق قلبه.
ونادى الحسين بصوت جَهْوَري:
ـ يا « شبث بن ربعي » ويا « حجّار بن أبجر » ويا « قيس بن الأشعث » ويا« زيد بن الحارث »! ألم تكتبوا إليّ أن أقدم قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وانّما تقدم على جند لك مجنّدة ؟!
تعالت اصوات مذعورة.. أصوات فئران خائفة:
ـ لم نفعل.. لم نفعل.
ـ سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم.. ايّها النّاس! اذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم الى مأمن من الارض.
صرخ قيس بن الاشعث، وقد التمعت عيناه بالغدر:
ـ أوَلا تنزل على حكم ابن عمّك؟ فإنّهم لن يُروك الاّ ما تحب، ولن يصل اليك منهم مكروه.
ـ انت أخو أخيك. أتريد أن يطلبك بنوهاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد.. عباد الله! انّي عذت بربي وربّكم أن ترجُمون. اعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لايؤمن بيوم الحساب.


* * *


اللهم صل على محمد وآل محمد الأوصياء الراضين المرضيين بأفضل صلواتك وبارك عليهم بأفضل بركاتك
والسلام عليهم وعلى أرواحهم وأجسادهم ورحمة الله وبركاته


يتبع ...






رد مع اقتباس
قديم 10-20-2015, 05:40 AM   رقم المشاركة : 6
صلاتي حياتي
(مشرفة منتدى الإمام الحسين عليه السلام)

الملف الشخصي




الحالة
صلاتي حياتي غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي رد: الم.. ذلك الحسين (رواية)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم



* * *

اشرقت الشمس.. حمراء .. حمراء.. بركة من دماء. التمعت ذرى النخيل، وتوهجت ذرات الرمال، واصطبغت وجوه القبائل بلون الجريمة.. واستيقظ الشيطان يعربد ويدمّر..
صرخ شيطان من القبائل:
ـ يا حسين.. أبشر بالنار.
ـ كذبت، بل أقدم على ربّ غفور كريم.. فمن انت؟.
ـ انا ابن حوزة.
رفع السبط يديه الى السماء:
ـ اللّهم حِزه الى النار.
لا أحد يعرف كيف حدث الأمر. ما الذي أغضب الفرس؟ ما الذي دفعها لأن تركض كالمجنونة.. تدور وتدور. وفي فورة غضب تمكنت الفرس أن تقذف من على ظهرها الفارس.. في قلب الخندق المشتعل. لحظات مرّت تحول فيها ابن حوزة الى رماد.. تحولت احلام السلب والنهب وشهوة القتل الى هشيم تذروه الريح...
لو كان هناك رجل من الحواريين لقال هذا ابن الله.
ولقال له الحسين:
ـ انا ابن نبي الله.
هتف السبط:
ـ اللّهم انا اهل بيت نبيّك وذريّته وقرابته، فاقصم من ظلَمنا وغصَبنا حقّنا إنّك سميع قريب...
ما أقرب السماء للإنسان إن سما! وتذكر الحسين رجلاً سأل أباه: كم هي المسافة بين السماء والارض؟ فأجاب « باب مدينة العلم »: دعوةٌ مستجابة.
وقف ابن سعد منتشياً بأحلامه.. ما هي الاّ ساعة، ثمّ ينتهي كل شيء.. سوف يُحكم قبضته على الري وجرجان.. لم تبق الاّ خطوة واحدة.. أن يعبر جثة الحسين.. بركة صغيرة من الدم.. ثمّ ينطلق صوب الشرق.. الى عالم يزخر بالجواري والحريم.
تقدم الحرّ.. أيقظه من الحلم:
ـ أمقاتل انت هذا الرجل؟!
ـ إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الايدي.
ـ دعوه ينصرف الى مكان في هذه الأرض ؟
ـ لو كان الأمر بيدي لقبلت.. انّها أوامر ابن زياد.
ادرك الحرّ أن الساعة آتية لاريب فيها، ولسوف تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى.. وبدأ الحرّ يخطو صوب القافلة.. قال «ابن أوس» وقد ذهبت به الظنون:
ـ اتريد أن تحمل ؟!
ـ ..
ضرب الزلزال الاعماق مرّة أخرى، وشعر الحرّ بالأنقاض تتراكم بعضها فوق بعض...
هتف ابن أوس متعجباً:
ـ لو قيل لي مَن أشجع أهل الكوفة لما عدوتك؟ فما هذا الّذي اراه منك ؟!التفت الحرّ وصوّب نحوه نظرة تحمل كل معاني الاكتشاف:
ـ انّي أُخيّر نفسي بين الجنّة والنار.. والله لاأختار على الجنّة شيئاً ولو أُحرقت..
تمتم ابن سعد مذهولاً:
ـ ماذا أرى ؟.. ماذا يفعل هذا المجنون ؟.. كيف يختار الانسان الموت!.. انظروا اليه.. كيف يبدو خاشعاً أمام الحسين..
ـ انصتوا انه الحرّ.
قهقه أحدهم:
ـ إنّه يريد موعظتنا هو الآخر..
هتف شبث بن ربعي:
ـ ايّها الأحمق! دعنا نسمع ما يقول.
وجاء صوت الحرّ جَهْورياً مدوّياً منطلقاً من اعماق نفس اكتشفت ينابيع الخلود:
ـ يا أهل الكوفة لأُمّكم الهبل والعبر، إذ دعوتُموه وأحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجّه الى بلاد الله العريضة حتّى يأمن هو وأهل بيته، واصبح كالأسير في ايديكم لايملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، وحلأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه! وها هم قد صرعهم العطش. بئسما خلفتم محمداً في ذريّته..
وانطلقت نحوه السهام كالمطر.. وتقهقر الحرّ متفادياً نبال القبائل الغادرة.


* * *

نسور مجنونة تحوم في السماء، وريح عاصف تهب من ناحية الصحراء، وبدت اشجار النخيل كرماح مركوزة في خاصرة الفرات.
بدا الجوّ مشحوناً بالخطر، ومثلما تندلع الصواعق بين اكوام السحب، تدفقت سهام مجنونة تحمل في انصالها الموت.
هتف الحسين بأنصاره:
ـ قوموا رحمكم الله الى الموت الذي لابدّ منه، فإن هذه السهام رسُل القوم اليكم.
هبّ رجال كانوا ينتظرون على أحرّ من الجمر.
كيف اصبح الموت أمنيّة لهم ؟ كيف اضحى في نظرهم خلوداً.. كيف تحولت الصحراء الملتهبة الى جنات تجري من تحتها الانهار ؟!
غاص الرجال في احراش كثيفة من رماح وسيوف. كانوا يقاتلون بضرواة لا نظير لها. كما لو كانوا يريدون توجيه مسار التاريخ الاتجاه الّذي ينشدون.
امتلأ الجوّ غباراً ودخاناً، وكانت السيوف تهوي كبروق مشتعلة. وعندما غادر الغبار ارض المعركة، كان هناك خمسون صريعاً يعالجون جراحاتهم في الرمضاء.. الجراح تسقي الارض.. والدماء تروي شجرة الحرّية.. شجرة اصلها ثابت في اعماق التراب، وفرعها في هامة السماء.
تمتم الحسين متألماً:
ـ اشتد غضب الله على اليهود اذ جعلوا له ولداً، واشتدّ غضبه على النصارى اذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتد غضبه على المجوس اذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتد غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم.. أما والله لا أُجيبهم الى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضب بدمي.
هجم الأبرص على إحدى الخيام، وقد اشتعلت في عينيه شهوة النهب، وهاج شيطان يعربد في اعماقه:
ـ عليَّ بالنّار لأحرقه على أهله..
القلوب الصغيرة الخائفة فرّت مذعورة من الخيمة كطيور هاربة من سفن بعيدة غرقت.
صاح الحسين:
ـ يا ابن ذي الجوشن! انت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي.. أحرَقَك الله بالنّار.
استنكر شبث بن ربعي الحضيض الذي وصل اليه رفيقه.
ـ أمُرعباً للنساء صرت ؟! ما رأيت مقالاً أسوأ من مقالك، ولا موقفاً أقبح من موقفك.
وتمتم وهو يعضّ على يده:
ـ قاتلنا مع علي بن ابي طالب ومع ابنه من بعده آلَ أبي سفيان خمس سنين، ثمّ عدَونا على ولده ـ وهو خير أهل الارض ـ نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية!.. ضلال .. يا لك من ضلال!!
توسطت الشمس كبد السماء والقبائل تتخطف القافلة..
التفت « أبو ثمامة الصائدي » الى الحسين. قال بخشوع:
ـ نفسي لك الفداء. إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك. لا والله لا تُقتل حتّى أُقتل دونك. وأحب أن ألقى الله وقد صلّيت هذه الصلاة الّتي دنا وقتها.
رفع الحسين رأسه الى السماء وألقى نظرة على الشمس:
ـ ذكرتَ الصلاة.. جعلك الله من المصلّين الذاكرين، نعم هذا أوّل وقتها..
وأردف وهو يجفف حبّات عرق تلتمع فوق جبينه:
ـ سلوهم أن يكفّوا عنا حتّى نصلّي.
هتف ابن نمير وكان فظّاً غليظ القلب:
ـ إنّها لا تُقبل!
أجاب حبيب بن مظاهر غاضباً:
ـ زعمت أنها لاتقبل من آل الرسول وتُقبل منك يا حمار!
عربد الشيطان في اعماق « ابن نمير »، فأقحم الفرس نحو « حبيب » وحبيب واقف كالجبل لم يكترث بالجموع وهي تنحدر نحوه. وتخطفته سيوف القبائل.. وانسابت دماؤه قانية فوق رمال الصحراء تروي لها أروع قصص الوفاء والتضحية والفداء.
واسترجع الحسين كثيراً:
ـ عندالله احتسب نفسي وحُماة أصحابي.
القبائل تموج كأنها ريح صفراء تحمل في طياتها الموت؛ والحسين وسط الإعصار يصلّي بأصحابه الصلاة الأخيرة.. السماء تفتح ابوابها للقافلة القادمة، والفضاء يزخر بأجنحة الملائكة.. ونسائم طيبة تحمل رائحة الربيع.. ربيع جنّات الفردوس.
الفت الحسين الى اصحابه وهو يشير الى مسار القافلة:
ـ يا كرام! هذه الجنّة قد فُتحت أبوابها، واتصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله، والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله يتوقّعون قدومكم ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله ودين نبيه، وذبّوا عن حرم الرسول..
القافلة الّتي اكتشفت ينابيع الخلد تهبّ للخطى الاخيرة:
ـ نفوسنا لنفسك الفداء، ودماؤنا لدمك الوقاء. فوالله لايصل اليك والى حرمك سوء وفينا عرق يضرب.
السماء تفتح أبوابها، والرجال يعرجون. تقدم « أبوثمامة » الى المعراج، وما أسرع أن حلّق الى السماوات مخلِّفاً وراءه برْكة من دماء قانية.
ومن بعده انطلق «زهير». وضع يده فوق منكب الحسين، وانشد:
أقـدِمْ هُـديتَ هادياً مهديّا
فـاليوم ألقى جـدّك النبيّا
وحسناً والمرتـضى عليّا
وذا الجناحين الفتى الكميّا
ـ وأنا ألقاهما على اثرك.
وما أسرع أن التحق برفاقه. القافلة تطوي السماوات.. تتخطى الكواكب والافلاك.. في عروج ملكوتي فريد.
وقف الحسين عند مصرعه، وقال متأثراً:
ـ لا يبعدنّك الله يا زهير! ولعن قاتليك، لعْن الّذين مُسخوا قردة وخنازير.
واستعد « نافع الجملي » للرحيل، فغاص في اعماق القبائل وانهمرت عليه الحجارة من كل صوب، فتهشم عضُداه، وسيق اسيراً. كانت الدماء تنزف منه، وقد صبغته بحمرتها المشتعلة. قال ابن سعد بلهجة ينمّ منها الإعجاب ببسالته:
ـ ما حملك على ما صنعت بنفسك ؟!
ـ إن ربّي يعلم ما أردت.
ـ أما ترى ما بك ؟!
ـ والله لقد قتلتُ منكم اثني عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسي على الجهد.. ولو بقيت لي عضد ما أسرتموني.
جرّد الأبرص سيفه وقد برقت عيناه حقداً.. فقال نافع بطمأنينة:
ـ والله يا شمر لو كنت من المسلمين لَعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا.. فالحمد لله الّذي جعل منايانا على أيدي شرار خلقه..
هوى السيف بقسوة، وتدحرج الرأس فوق الرمال، وعيناه تنظران باتجاه عوالم لانهائيّة، وقد ارتسمت ابتسامة هادئة فوق شفتين ذابلتين من الظمأ.
ونادى رجل من القبائل:
ـ يا برير! كيف ترى صنع الله بك؟
أجاب برير وهو ينظر الى ما وراء غبار الزمان:
ـ صنع بي خيراً، وصنع بك شرّاً.
ـ كذبت وقبل اليوم ما كنت كذّابا. أتذكر يوم كنتُ أماشيك في « بني لوذان » وانت تقول: كان معاوية ضالاً وان إمام الهدى علي بن ابي طالب:
ـ بلى اشهد ان هذا رأيي.
ـ وانا اشهد انك من الضالّين.
ـ تعال نبتهل الى الله فيلعن الكاذب منا ويقتله.
توجهت أيدٍ مع قلوب الى السماء تستمد النصر، وارتفعت ايد جذّاء. فتُقبّل من احدهما ولم يُتقبَّل من الآخر. وبدأت المنازلة.. هوى برير بسيف يشبه صاعقة مدمّرة.. فهوى الرجل الذي حاقت به اللعنة الى الارض كأنما خرّ من شاهق.


***

اللهم صل على محمد وآل محمد الأوصياء الراضين المرضيين بأفضل صلواتك وبارك عليهم بأفضل بركاتك
والسلام عليهم وعلى أرواحهم وأجسادهم ورحمة الله وبركاته


يتبع ...






رد مع اقتباس
قديم 10-23-2015, 05:50 AM   رقم المشاركة : 7
صلاتي حياتي
(مشرفة منتدى الإمام الحسين عليه السلام)

الملف الشخصي




الحالة
صلاتي حياتي غير متواجد حالياً
الحالات الاضافية

 


 

افتراضي رد: الم.. ذلك الحسين (رواية)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم


***

الشمس ما تزال مسمّرة في زرقة السماء تصبّ لهيباً يشوي الوجوه.. وعجلة الموت تدور مجنونة في الرمال الملتهبة.. تتخطف رجالاً لم تُلهِهم تجارة ولابيع عن ذكر الله...
تقدم « جون ».. دفعته الأيام من اصقاع بعيدة، وكان فتى لأبي ذر الغفاري..
قال الحسين:
ـ يا جون! إنما تبعتَنا طلباً للعافية، فأنت في إذن مني.
اجاب جون بضراعة:
ـ أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم! لا والله لا أفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم.
واندفع جون يقاتل القبائل.. والأرض تهتزّ تحت قدميه بشدّة كطبول إفريقية.
وأطبقت السيوف عليه كأنياب وحش أُسطوري.
تمتم الحسين، وهو يتأمل جراحه النازفة:
ـ اللّهم احشره مع محمّد، وعرّف بينه وبين آل محمّد.
وتقدم من بعده أنس بن الحارث الكاهلي، وكان شيخاً كبيراً صحابياً، رأي النبي وسمع حديثه، وشهد معه بدراً، وحنيناً، ومعارك دامية أخرى.
الشيخ الذي حنت ظهره الأيام.. ووقفت عاجزة أمام إرادته.. نزع عمامته، وشدّ ظهره المقوّس بها، ورفع حاجبيه بالعصابة.
كان الحسين يراقبه، وعيناه تنهمران دموعاً.. ثمّ أجهش بالبكاء..
ـ شكر الله لك يا شيخ!
تقدم الصحابي بخطى واهنة، وعزم كالحديد أو أشد بأساً.. وتداعت أمامه صور مشرقة من جهاده مع النبي يوم كان يقاتل المشركين كافّة.. وها هو اليوم يقاتل ابناءهم واحفادهم.. ودوّت في أُذنَيه كلمات الرسول في المعارك: يا منصور أمت..
ووجدت القبائل فيه ثأراً قديماً من ثارات بدر وحنين.. فتكالبت عليه من كل حدب وصوب. وعندما هوى الصحابي الكبير الى الارض، ولامس وجهه الرمال، شعر بأنه يقبّل وجه النبي.
الصحراء تئنّ من وقع سنابك الخيل، والرمال تشرب الدماء وتنشد المزيد، والقبائل تنتشي بثارات قديمة.. قديمة جداً.
الفرات يجري.. تتدافع أمواجه؛ فبدا غير مكترث لما يدور على شواطئه.. بل لعلّه كان يسرع ممعناً في الفرار.. لايريد أن يشهد الأهوال.. أو ربّما كان يريد أن يروي للبحر قصة الصحراء والظمأ والحسين.
لم يبق مع الحسين من اصحابه أحد.. ودّعوه وذهبوا بعيداً..
لم يبق مع الحسين سوى أهل بيته.. فتقدم علي الاكبر.. إعصار يختزن غضب الانبياء.. الاب يودّع ابنه بنظرات حزينة كغيوم ممطرة. كانت دموع الحسين تنهمر. وبصوت، يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر، هتف:
ـ قطع الله رحمك يابن سعد كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله.. وسلّط عليك من يذبحك على فراشك.
الأكبر يخترق غابة السيوف والرماح.. والحسين يرفع وجهه.. يحدّق في السماء:
ـ اللّهم اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز اليهم أشبهُ الناس برسولك محمّد خلْقاً وخُلُقاً ومنطِقا، وكنا اذا اشتقنا الى رؤية نبيّك نظرنا اليه، اللّهم فامنعهم بركات الارض.
العلوي يخترق أحراش الرماح.. وبين الفينة والأخرى يلوح بريق سيف غاضب كوميض الصواعق بين سحب مشحونة.. مخزونة بالرعود.
هزّ « مُرّة بن منقذ » رمحه، وقد عصفت في نفسه الحمية.. حمية الجاهلية:
ـ عليَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه ؟
واخترق رمح وحشي طيفاً نبوياً. فاعتنق فرسه. فانطلقت وسط احراش السيوف وغابات الرماح.. وتخطّفتْه القبائل المتوحشة.. وانبثقت كلمات « الأكبر » كنافورة حبّ ازليّة:
ـ عليك مني السلام أبا عبدالله، هذا جدّي قد سقاني بكأسه شربة لاأظمأ بعدها، وهو يقول: إنّ لك كأساً مذخورة.
وعندما وصل الأب المفجوع، كان الابن قد رحل بعيداً.. بعيداً جداً .. وفي عينيه تلوح قوافل مسافرة.
الجراح النبويّة تنزف . ملأ الحسين كفّه من ينابيع الحياة، ثمّ رمى بها الى السماء.. الرذاذ الأحمر يصّعّد الى الفضاء اللانهائي.. يتحول الى نجوم تنبض أملاً، فتهتدي في وميضها قوافل قادمة من رحم الأيام.
ـ على الدنيا بعدك العفا.. ما أجرأَهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول.
الراية ما تزال تخفق بعنف.. تعلن الثورة.. الرفض.. الإباء..
الدماء تنزف.. تروي الرمال.. تنفخ فيها روحاً، وتبثّها اسراراً لا يدركها أحد من العالمين.
ـ هل رأيتم القمر يمشي على الارض ؟!
تمتم التاريخ متعجباً، وهو يري القاسم بن الحسن.. فتىً لم يبلغ الحلم بعد. يمشي الهُوينى.. عليه قميص وإزار، وفي رجليه نعلان. في يمينه سيف.. يطوّح به يميناً وشمالاً.. يقاتل الذين غدروا.. انّهم لا أيمان لهم. انقطع شسع نعله اليسرى، فانحنى يشدّه.. غير عابئ بالقبائل تدور حوله كدوّامة مالها من قرار.
شدّ عليه رجل يلهث، فاستنكر آخر:
ـ ما تريد من هذا الغلام؟! يكفيك هؤلاء الذين احتوشوه.
ـ لأشدّنّ عليه.
وارتطم سيف جبّار، فانشقّ القمر:
ـ يا عماه!
وهبّ الحسين عاصفةً مدّمرة.. إعصار فيه نار. وما أسرع أن هوى العم على قاتل ابن اخيه بسيف مشحون غضباً. وصرخ القاتل لهول الضربة. وارادت الخيل أن تدفع عنه الموت، فداسته بحوافرها.. وضاع بين سنابك الخيل. وضاعت معه كل أطماعه وأوهامه.
وقف الحسين عند الفتى الشهيد:
ـ بُعداً لقوم قتلوك. خصمهم يوم القيامة جدّك. عزَّ ـ والله ـ على عمك أن تدعوَه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك.
الموت يتخطف القافلة.. والمسافرون يعرجون الى السماء.. أرواحاً شفافة خلعت أهابها الارضي ورحلت الى عالم مغمور بالنور.
لم يبق مع الحسين سوى حامل الراية؛ رجل يُدعى « أباالفضل »؛ أبوه أبوالحسن، وأمه امرأة ولدتْها الفحولة من العرب.
الراية تخفق في شماله، وفي يمينه بتّار يقصف الأعمار.
ثمة عيون تتطلع من وراء خيام.. تنظر الى الراية.. تخفق كشراع سفينة تعصف بها الريح من كل مكان.
القلوب التي صدّعها الظمأ تنشد الماء، والفرات دونه غايات من الرماح، وأبوالفضل يكاد يتفجّر غضباً كلما سمع أنّةَ بنت أو صراخ صبي: العطش.. العطش.. ولاشيء سوى السراب، سراب يحسبه الظمآن ماء.
تقدم صاحب الراية من أخيه الذي بقي وحيداً.. الحسين ينظر الى آخر القرابين السماوية:
ـ يا أخي! أنت صاحب لوائي.
قال ابوالفضل وهو يكاد يتميز من الغيظ:
ـ قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين، وأريد أن آخذ ثاري.
ـ اذا كان ولابدّ، فاطلب لهؤلاء الأطفال ماء.
انطلق أبوالفضل الى القبائل.. الى قلوب قاسية أقسى من الحجارة.. وإن من الحجارة لَما يتفجّر منها الانهار.
ـ يا عمر بن سعد! هذا الحسين ابن بنت رسول الله.. قد قتلتم اصحابه وأهل بيته، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء.. قد أحرق الظمأ قلوبهم. وهو مع ذلك يقول: دعوني اذهب الى الروم أو الهند وأُخلي لكم الحجاز والعراق.
صاح الابرص بصوت يشبه رنّة الشيطان:
ـ يا ابن أبي تراب! لوكان وجه الارض كلّه ماء، وهو تحت أيدينا، لما سقيناكم منه قطرة.. إلاّ ان تدخلوا في بيعة يزيد.
الأطفال يصيحون.. القلوب الظامئة تئنّ.. الشفاه الذابلة تهتف: العطش.. العطش. والفرات يجري.. تتدافع أمواجه.. كبطون الحيّات. اعتلى صاحب اللواء صهوة الجواد.. .
حمل القربة، وفي أذنيه كلمات قالها أبوه على شاطئ الفرات بصفين: روّوا السيوف من الدماء، تُروَوا من الماء.
انطلق أبوالفضل باتجاه الفرات وسط وابل من سهام ونبال.. رجال القبائل يفرّون بين يديه مذعورين.. كأنّما يفرّون من الموت الزؤام..
الفارس يشقّ طريقه غير مبالٍ بالألوف التي أحدقت به.. يتوغّل في اعمال النخيل المحدق بالشاطئ كأهداب حوريّة.. أبوالفضل يقحم فرسه النهر، فيتطاير رذاذ الماء. اهتزّت سعفات نخلة لكأنما طربت لشجاعة وبأس ستذكرهما الايام.
المياه المتدافعة تجري تحت الأقدام، والفارس الظامئ يغترف من الماء غرفة.. فيتذكّر قلباً يكاد يتفطّر عطشاً؛ تمتم وهو يطوّح بقبضة الماء بعيداً:
يا نفسُ مِن بعد الحسين هوني وبـعـده لا كنـتِ أو تكوني
ملأ القربة ماءً، ثم قفز فوق جواده، وانطلق نحو مضارب الخيام..
القبائل تقطع عليه طريق العودة، وقد غاظها منظر القربة تموج بمياه الفرات.
الفارس يسطر الملاحم وينشد:
لا أرهـب الموت إذا المـوتُ زقا حـتّـى أوُارى في المصاليت لِقى
نفسي لسبـط المصطفى الطُّهْر وِقا إنـي أنـا الـعـباس أغدو بالسِّقا
رجل من القبائل يتقن الغدر يختبئ وراء نخلة.. في يده سيف ورثه عن « ابن ملجم ».
السيف الغادر يهوي ـ على حين غفلة ـ فيطيح باليمين لتستقر عند جذع نخلة سمراء:
والله إن قـطعتـمُ يميني إني أُحامي أبداً عن ديني
وعن إمامٍ صادق الـيقينِ نجلِ النبيِّ الطاهر الأمينِ
أبوالفضل يشقّ طريقه. اصبح هدفه إيصال الماء إلى قلوب تتصدّع عطشاً وتحلم بمواسم المطر.
سيف غادر آخر يهوي من وراء نخلة، فيطيح بالشمال. سقطت الراية ومن قبلها سيف علوي.. وأبوالفضل يشق طريقه في وابل من السهام والنبال. وعندما اخترق القربة سهم وانثالت المياه، فقدَ الفارس المقطوع اليدين حماسه في العودة الى المخيم، ودارت به القبائل كدوّامة مجنونة، وهوى رجل ـ وما هو برجل ـ بعمود على رأسه ففلق هامته. وانطلق صوت يبشِّر بالسلام القادم:
ـ عليك منّي السّلام أباعبدالله.
وانطلقت من بين مضارب الخيام صيحات تُنذر بهبوب العاصفة.. صاحت زينب ومعها نسوة وبنات:
ـ واضيعتنا بعدك.
فتمتم الحسين وهو ينشج:
ـ واضيعتنا بعدك!

* * *

أزفت ساعة الرحيل.. أجال آخر الأسباط عينيه المتألقتين في الرمال الممتدّة حتّى الأفق. نساء واطفال خرجوا من بين الخيام.. العيون الحزينة تحدق بآخر الرجال.. بآخر خيوط الأمل. هتف الحسين بأعلى صوته.. يخاطب التاريخ والانسان:
ـ هل من ذابّ عن حرم رسول الله ؟ هل من موحّد يخاف اللهَ فينا ؟
وامتزجت صرخته بعويل وبكاء.. وانغمست بالدموع.. بالدماء. نهض فتىً طوّح به المرض.. نهض يجرجر نفسه وسيفه.. يتوكأ على عصا.. فتى ادّخره أبوه ليوم آخر.
هتف الحسين بأخته:
ـ احبسيه؛ لئلا تخلوَ الأرض من نسل آل محمّد!
كأسراب الغربان طاف الحزن بين الخيام.. جثم على القلوب المقهورة، وراح ينعق بصوت ينذر باقتراب الكارثة.
وقف الحسين للوداع.. وداع الأرض.. الشمس تغمر الرمال باللهب، والفرات يجري.. يمعن في الفرار.. والقبائل مجنونة بثارات قديمة.. والريح تدور .. تعدو بعيداً.. مسكونة بالرحيل.. مبهورة بالسفر.. والحسين يرتدي حلّة العروج.. على رأسه عمامة مورّدة، ملتحف ببردة النبي.. متقلد سيفه.
القبائل تجنّ لمنظره.. تشتعل في اعماقها شهوة الثأر.. تبرق عيونها للأسلاب العظيمة.
طلب الحسين ثياباً لا يرغب فيها أحد، ليضعها تحت حلّته. فقدموا له سروالاً قصيراً فأبعده بطرف سيفه.
ـ انه من لباس الذلّة.
اختار ثوباً قديماً، فخرّقه بسيفه، ولبسه تحت ثيابه.
القبائل تتحفز لقتل آخر الاسباط.. والسبط يودّع الاطفال والنساء.
احتضن طفله الرضيع، وراح يقبله متمتاً بحسرة:
ـ بعداً لهؤلاء القوم إذا كان جدك المصطفى خصمَهم.
الشفتان الصغيرتان تبحثان عن قطرة ماء.. والفرات يموج بالمياه يتلوّى وسط الصحراء حيّة تسعى. تقدم الحسين يحمل طفله الظامئ:
ـ ألا قطرة ماء ؟
وينطلق سهم غادر يحمل في نصله الذبح. الطفل يُخرج يده الصغيرة من القماط. ما تزال يده ممدودة .. تستفهم التاريخ والانسان.
الدماء الشفّافة تغمر صدر الحسين.. الأب يملأ كفّه من النافورة الحمراء .. ثمّ يطوّح بها في السماء. رشاش الدم يصّعّد الى الفضاء.. يخترق الحجب البعيدة .. يخرق قوانين الأرض. همس الحسين:
ـ هوّن ما نزل بي أنه بعين الله، اللّهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمّد.
طيفٌ ملائكي يخطف أمامه.. يحمل في جناحيه عبير الفردوس:
ـ دعه يا حسين، فإنّ له مرضعاً في الجنّة.
مثل عاصفة غاضبة هبّ الحسين يمزّق بسيفه القبائل. تساءل النخيل وهو يهزّ سعفاته بإجلال عن رجل وحيد يقاتل الآلاف.
أنا الحسين بن علي آليـت ألاّ أنـثنـي
صرخ ابن سعد وهو يرى احلامه تتبدد:
ـ هذا ابن الأنزع البطين. هذا ابن قتّال العرب. احملوا عليه من كل جانب.
أطبقت عليه القبائل، وأمّته آلاف السهام، وحالت بينه وبين الخيام.
هتف آخر الأسباط:
ـ يا شيعة آل أبي سفيان!! إن لم يكن لكم دين وكنتم لاتخافون المعاد، فكونو احراراً في دنياكم، وارجعوا الى احسابكم إن كنتم عُرباً كما تزعمون.
صاح الأبرص:
ـ ما تقول يابن فاطمة ؟
ـ انا الذي أُقاتلكم والنساء ليس عليهن جُناح، فامنعوا عتاتَكم عن التعرّض لحرمي مادمت حيّا.
ـ لك ذلك.
وقصدته القبائل.. الحسين الظامئ يدفع أمواج الغدر.. يقاتل .. يقاوم .. يحصد رؤوس الذين كفروا. شعر بعطش شديد.. والفرات محاصر بأربعة آلاف أو يزيدون.. الفرات تنثال مياهه على الشطآن ترتاده دوابّ الارض.. وآخر الاسباط ينشد غرفة واحدة.
الزوبعة تتجه نحو النهر.. تجتثّ في طريقها أشباه الرجال.
قال ابن يغوث ـ وكان مع القبائل: ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته وصحبه أربطَ جأشاً منه ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً .. ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدّ فيها، ولم يثبت له أحد.
الحسين يقهر القبائل.. يحتلّ الفرات.. ويقحم فرسه المياه المتدفّقة.. الأمواج تتلألأ في ضوء الشمس. شعر الفرس ببرودة الماء.. حنى رأسه ليشرب .. ليرتوي.
قال قاهر الفرات مخاطباً الفرس، وكان من جياد خيل النبيّ:
ـ انت عطشان وأنا عطشان، فلا أشرب حتّى تشرب.
رفع الجواد رأسه.. رفض أن يشرب قبل صاحبه. مدّ الفارس يده ليغرف؛ ناداه رجل من القبائل:
ـ أتلتذّ بالماء وقد هُتكت حُرمك ؟!
طوّح السبط بقبضة الماء وانطلق صوب الخيام.. اشرقت الوجوه الخائفة. لقد عاد الأمل.
التفّت حوله صبية ونساء.. تعلقت به. الشمس تجنح نحو الغروب، والحسين يسافر مع الشمس. ودّع عياله. كشف لهم صفحة من عالم الغد، وقرأ عليهم سطورأ من دفتر الأيام:
ـ استعدّوا للبلاء، واعلموا أن الله تعالى حاميكم وحافظكم وسينجيكم من شرّ الاعداء، ويجعل عاقبة أمركم الى خير، ويعذّب عدوّكم بانواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة. فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم.
افتقد ابنته سكينة.. لم تكن مع المودّعين.. وجدها وحيدة في الخيمة وقد غلب عليها الاستغراق. كانت تفكّر في طريق ابيها العجيب.
صرخ رجل من القبائل وهو يحلم بعبور جثة الحسين:
ـ اهجموا عليه مادام مشغولاً بنفسه وحرمه.
نفثت القبائل سهاماً مسمومة النبال تخترق الخيام.. وتشك أُزرَ النساء. فرّت النسوة الى داخل الخيام.. العيون تحدّق بالحسين.. ماذا سيفعل آخر الاسباط؟
الفارس الذي قدم من الجزيرة على قدر.. يحدّد ساعة الصفر، ويبدأ الهجوم. التاريخ يركض مبهور الانفاس.. يتشبّث بركاب الحسين.. والحسين يسبق التاريخ .. يغوص في عوالم بعيدة.. ويبقى التاريخ يقلب كفيه حائراً وسط الرمال.
القبائل تفرّ مذعورة بين يديه، ووابل النبال يرشقه من كل حدب وصوب، والحسين يقهر الموت.. يحطّم جدران الزمن .. يتخطى القرون.
الروح العظيمة.. تريد الانطلاق من أهاب الجسد المجرّح.. الجراح المتدفقة كينابيع فوّارة، تروي الرمال المتوهجّة.. الفرات يمعن في الفرار.. يضنُّ بقطرة ماء.
ـ يا حسين! ألا ترى الفرات كأنه بطون الحيّات ؟ فلا تشرب منه حتّى تموت عطشاً.
ورماه أبوالحتوف بسهم في جبينه، فانتزعه. وتدفقت الدماء من جبهته الشّماء.
همس الرجل الوحيد في قلب السماء: اللّهم انّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، اللّهمّ أحصِهم عددا، واقتلهم بددا، ولاتذر على وجه الارض منهم أحدا، ولاتغفر لهم أبدا.
ثم هتف بأعلى صوته:
ـ يا أمّة السوء! بئسما خلفتم محمّداً في عترته. أما إنكم لاتقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله. بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم اياي. وأيم الله، اني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة ثم ينتقم لي منكم من حيث لاتشعرون.
عوى ذئب من القبائل:
ـ وبماذا ينتقم لك منّا يا ابن فاطمة ؟
ـ يُلقي بأسكم بينكم ويسفك دماءكم، ثم يصبّ عليكم العذاب صبّا.
الجسد الواهن تتسرب منه الدماء.. دماء كثيرة صبغت صعيد الارض. توقف السبط ليستريح قليلاً، فرماه رجل من القبائل المسعورة بحجر، فانبثقت الدماء من جبهته.
أراد الحسين أن يوقف نزف الدم بطرف ثوبه، فجاءه سهم محدّد له ثلاث شعب. انغرس السهم المثلث في قلب الحسين.. السهم يتشبث بالقلب الجبل.. انّها النهاية.. نهاية الألم.. بداية الرحيل الى عوالم السلام.
تأوّه الحسين:
ـ بسم الله وبالله، وعلى ملّة رسول الله..
ثمّ رفع وجهه نحو السماء متضرعاً.
ـ الهي! انّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الارض ابن بنت نبي غيري!
السهم يغوص في الجسد الواهن.. يُخرج رؤوسه من القفا كالأفاعي.. وتنبعث الدماء غزيرة.. غزيرة. صوت يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر.
الحسين يملأ كفّيه دماً عبيطاً ثمّ يطوّح به نحو السماء ويهتف:
ـ هوّنَ ما نزل بي أنه بعين الله.
الدماء القانية الثائرة تسافر في عالم الأفلاك.. تصبغ النجوم.. تلوّن الآفاق.
مرّة أخرى، ملأ الحسين كفّيه دماً، ثمّ خضّب به رأسه ولحيته استعداداً للرحيل:
ـ هكذا ألقى الله.. وجدّي رسولَ الله.
وأعياه نزف الدم، فهوى على الارض كنجم منطفئ.
تقدم «ابن النسر» اليه وعيناه تبرقان حقداً، فضربه بالسيف على رأسه.
تمتم الحسين متألماً:
ـ لا أكلتَ بيمينك ولاشربت، وحشرك الله مع الظالمين.
وأحاطت به القبائل كلاباً مسعورة.. تنهش جسده.
همس الحسين:
ـ هذا تأويل رؤياي، قد جعلها ربّي حقاً..
ضربه «زرعة» على كتفه الأيسر، ورماه «ابن نمير» في حلقه، وطعنه «سنان» في تُرقوته، ثم في صدره، ورماه بسهم في نحره.
الكلاب تنهش جسده.. وكان أشدّها الأبقع..
العينان الواهنتان فيها بقايا ألق.. يوشك على الرحيل.. الحسين يرفع طرفه نحو السماء:
ـ اللّهم متعاليَ المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيّ عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب اذا دُعيت، محيط بما خلقت... ادعوك محتاجاً وأرغب اليك فقيراً، صبراً على قضائك يا رب لا إله سواك.
الحسين ينوء بنفسه. الروح تتسرب من أفواه الجراح.. تغوص في الرمال.. تبثّها اسراراً توقظ فيها مُدناً ثائرة.
ماذا يفعل الفرس؟ لِمَ يدور حوله؟ يلطخ ناصيته بدمه .. يشمه.. يصهل بغضب.. ينادي: الظليمةَ الظليمة من أمّة قتلت ابن بنت نبيها.
صرخ ابن سعد بالقبائل:
ـ دونكم الفرس؛ فإنّه من حياد خيل رسول الله.
فدارت به الخيل.. أخذت عليه الطرق. الفرس يقاتل.. يقاوم.. يتحول الى بركان. وانبهر قائد القبائل:
ـ دعوه لننظر ما يصنع..
انطلق الفرس نحو مضارب القافلة، وهو يصهل عالياً:
ـ الظليمة.. الظليمة من أُمّة قتلت ابن بنت نبيها..
هبّت نسوة واطفال .. لقد وقعت الواقعة. صرخت زينب:
ـ وامحمدّاه.. واأبتاه.. واعليّاه.. واجعفراه.. واحمزتاه. هذا حسين بالعراء.. صريع بكربلاء.. ليت السماء أطبقت على الارض، وليت الجبال تدكدكت على السهل!..
عندما وصلت زينب، كان الحسين يوشك على الرحيل.. يودّع الصحراء، بعد أن روّاها بدمه.
القبائل مفتونة.. تدور حول آخر الاسباط.. وقد زُلزلت الارض زلزالها. ماذا بوسع زينب أن تفعل. الحسين يجود بنفسه.. لقد تمزق جسده.. وما تزال الروح هي هي.. شديدة البأس. زينب تحاول إيقاظ بقايا الانسان في زعيم القبائل.. هتفت بلوعة:
ـ اي عمر! أيُقتل أبوعبدالله وانت تنظر اليه!!
لقد مات الانسان في داخله..
أهاب بالقبائل لإسدال الفصل الاخير:
ـ إنزلوا اليه وأريحوه.
صرخت زينب:
ـ أما فيكم مسلم؟!
ولا من جواب. لقد مات الانسان في عصر الذئاب والليل والعواء.
ـ إنزلوا اليه وأريحوه.
كان الأبرص ينتظر الإشارة بلهفة. التمعت عيناه بوحشية، وهو يرفس جسد الحسين الممزّق.. جلس على صدره. الابقعُ ينهش جسد السبط.. يقبض على شيبته.. ويهوي يسيف غادر على رأسه. ينفصل الرأس عن الجسد.. القبائل تموج مأخوذة بهَول ما يجري فوق الرمال..
الجسد ساكن بلاحراك. الكلاب تنهش.. تنهش الجسد الدامي.
ويرتفع رأس ابن النبي فوق رمح طويل.. يتطلّع الى آخر الدنيا، ويقرأ سورة الكهف.
انطفأت الشمس.. ومطرت السماء دماً عبيطاً، وبدا الافق الغربي شديد الحمرة كجراح نازفة.
وعصفت القبائل المسعورة بالخيام.. فأشعلت فيها النّار. وفرّت النسوة والأطفال.. هاموا على وجوههم في الرمال.
وانبرت عشرة خيول مجنونة.. خيول اعتادت السلّب والنهب والغارات .. تعوّدت سحق ورود البنفسج وبقربطون الاطفال.. اهتزّت الارض تحت سنابك الخيل وهي تمزّق صدر الحسين.. وفاحت من الجسد قُبلات محمّد والزهراء؛ ملأت الفضاء وامتزجت مع ذرات رمال الصحراء.. والتاريخ.
النار المجنونة تلتهم الخيام.. وصراخ الاطفال يملأ الدنيا.. والذئاب تعوي بقسوة.. والليل شديد الظلمة.. الريح تذرو والرمال.. تغطّي الاجساد العارية بغبرة خفيفة.. والقبائل تنهب وتسلب.. والفرات يمعن في الفرار.. ورأس الحسين فوق رمح طويل .. ينظر الى آخر الدنيا.. الي قوافل قادمة من رحم الأيام.


* * *

فرّت الشمس .. تورات خلق الأفق المضمَّخ بحمرة قانية، وأشرق القمر دامياً كعين تنتحب.. القبائل ما تزال تعصف بالخيام تضرم فيها النار، والنار تمدّ ألسنتها كأفواه جائعة أصابها مسّ من الجنون، فهى تلتهم كل شيء.
الذئاب تعوي.. تفتك بحملان صغيرة خائفة..
الشياطين تصارع الملائكة.
وصرخات تدوّي:
ـ لا تدعوا منهم أحداً صغيراً ولا كبيراً.
الذئاب تقتحم خيمة فيها فتى عليل لايقوى على النهوض.. جرّد الأبرص سيفه.. مازال متعطشاً للدماء.. استنكر رجل من القبائل:
ـ اتقتل الصبيان؟! انّما هو صبي مريض.
ـ لقد أمر ابن زياد بقتل أولاد الحسين.
وانبرت زينب بشجاعة أبيها:
ـ لايُقتل حتى أُقتل دونه.
ونادى منادٍ باقتسام الغنائم، فتنازعت القبائل الرؤوس، زُلفى الى ابن زياد حاكم المدينة الغادرة.
ارتفعت رؤوس مقطوعة فوق رماح. قافلة من العمالقة يتقدمها رأس سبط آخر الأنبياء.. يحمله الأبرص. سبعون رأس أو يزيدون لم تنحنِ لغير الله.. فارتفعت فوق ذرى الرماح.. وكان في مقدمتها رأس آخر الاسباط.
وكان الفتى المريض يجود بنفسه، فقالت عمته وهي تخترق جدران الزمن:
ـ ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي، فوالله إنّ هذا لعهد من الله الى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لاتعرفهم فراعنة الارض، وهم معروفون في أهل السماوات، انّهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والأجسام المضرّجة فيوارونها، وينصبون بهذا الطفّ علَماً لقبر أبيك لا يُدرس أثره ولا يُمحى رسمه على كرور الليالي والايام. وليجتهدنّ ائمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه، فلا يزداد أثره الاّ علوّاً.
منظر الدماء والجثث المتناثرة هنا وهناك، والسيوف المكسرة والسهام المغروسة في الرمال.. تحكي ملحمة رهيبة سطّرها رجال قهروا الموت، وفجّروا في قلبه نبع الحياة، وأماطوا اللثام عن سرّ الخلود.
تقدّمت امرأة تعدّت الخمسين من العمر الى جسد تعرفه، رعتْه صغيراً وراقبته كبيراً وشهدته ممزّقاً بحوافر خيل مجنونة.
جثت زينب عند مصرع آخر الاسباط؛ الجسد الممزق ساكن بلاحراك. لقد غادرت الروح الّتي دوّخت القبائل. دسّت زينب يديها تحت جسد أخيها.. رفعت بصرها الى السماء.. الى الله.. وتمتمت بعينين تفيضان دمعاً:
ـ تقبّلْ منّا هذا القربان.. يا الهي.
وألقت «سكينة» بنفسها على جسد أبيها العظيم واعتنقته، وغمرتها حالة من الاستغراق. كانت تصغي الى صوت ينبعث من أعماق الرمال.. همهمة سماوية عجيبة تشبه صوت والدها الراحل:
ـ شيعتي ما إن شربتُم عذْبَ ماء فاذكروني.
أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني.
لملمت القبائل خزيها.. عارها الأبدي، تريد العودة الى الكوفة.. و«سكينة» ما تزال تتشبت بالجسد المضمخ بالدم.
هجم الأعراب من القبائل وجرّوها بعنف وراحوا يكعّونها برؤوس الرماح حتّى استوت على ناقتها.
عشرون امرأةً ثكلى، وفتى عليل، وأطفال يتامى مذعورون؛ هو كل ما غنمته القبائل في أطول يوم في التاريخ. أما الرؤوس، فقد راحت تتسابق فيها الخييل بشرى الى الأرقط حاكم المدينة المشهورة بالغدر.
غادرت القبائل شواطىء الفرات.. تركته وحيداً يتلوى في الصحراء كأفعى حائرة.
وغادر موكب السبايا والعيون الحزينة تتلفت الى أجساد متناثرة فوق الرمال كنجوم منطفئة.. الى أن غابت عن البصر؛ وساد صمت رهيب ما خلا أنين خافت ينبعث من أعماق الارض المصبوغة بلون أُرجوانيّ.


______________

رواية " الم .. ذلك الحسين " تأليف: كمال السيد


اللهم صل على محمد وآل محمد الأوصياء الراضين المرضيين بأفضل صلواتك وبارك عليهم بأفضل بركاتك
والسلام عليهم وعلى أرواحهم وأجسادهم ورحمة الله وبركاته






رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة



جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 08:17 PM.


منتديات أبو الفضل العباس
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات أبو الفضل العباس عليه السلام